متى يناقش البرلمان قانون المسئولية الطبية؟!

ربما كان من الأفضل أن أبدأ حديثى هذه المرة بالتأكيد على حقيقة دامغة يتناساها البعض فى كثير من الأحيان.. الحقيقة هى أنه لا يوجد طبيب على وجه الأرض لا يتمنى الشفاء لمريضه!! أعرف أنها إحدى البديهيات التى لا جدال فيها... ولكن ما نراه على أرض الواقع هو ما جعلنى أصر على تأكيد ما هو مؤكد للجميع!! المشكلة أن تلك الحقيقة تختفى فى كل مشكلة تعرض على القضاء أو حتى على الرأى العام تتعلق بضرر طبى ما وقع على المريض.. نعم.. ففى كل مرة يتحول الجميع بلا تمييز للهجوم على الطبيب المعالج.. ونعته بكل ما يمكنهم ذكره من صفات القسوة والإهمال والجهل.. دون الأخذ فى الاعتبار أن الأمر ربما يتعلق بكثير من العوامل التى لا يذكرها أحد من الأساس.. فالضرر الطبى قد يقع نتيجة لإهمال الطبيب.. أو حتى خطئه -الذى لا يمكن أن يكون متعمداً- هذه حقيقة لا شك فيها.. ولكنه قد ينتج أيضاً من مضاعفات واردة الحدوث ومنصوص عليها فى المراجع العلمية.. أو من إهمال المريض نفسه فى عدم اتباع النصح الطبى اللازم لحالته!

أذكر صديقاً تعرض لاستدعاء من النيابة العامة للتحقيق فى حالة تلوث لجرح عملية استئصال للزائدة الدودية.. علماً بأن المريض خرج من المستشفى منذ أيام.. مع تعليمات صارمة بالحضور فى أيام محددة للغيار على الجرح.. ولكن المريض اختفى تماماً ليظهر أمام النيابة بجرح ملوث.. وليمثل الجراح باتهام قاس بالإهمال الطبى!!

إن الوضع القانونى الحالى يقضى بأن يتم تحويل كل الشكاوى الطبية للطبيب الشرعى -غير المتخصص- لبيان ما إذا كان هناك خطأ طبى أو إهمال قد وقع أم لا.. وفى الوقت نفسه لم يلزم القانون الطبيب الشرعى بأخذ رأى استشارى من نفس التخصص.. و إذا صدر التقرير بإقرار مسئولية الطبيب -طبقاً لتقدير الطب الشرعى وحده- يتم حبسه احتياطياً، أو على الأقل خروجه بكفالة حتى يتم تقديمه للمحاكمة متهماً.. الطريف أن الحكم يصدر فى الأغلب ببراءة الطبيب فى معظم الحالات.. حتى تلك الحالات التى تحمل خطأ يستوجب الحساب.. وذلك بعد أن تطلب المحكمة رأى لجنة فنية متخصصة.. تجامل زميلها الطبيب على طول الخط!

المشكلة لا تتوقف على هذا فقط.. بل تتجاوزه إلى ما هو أبعد بكثير.. هل فكر أحد فى نفسية ذلك الطبيب الذى تعرض لكل تلك الإهانات حتى تثبت براءته؟.. هل تخيل حالته حين يعود مرة أخرى لممارسة عمله؟.. هل سيحاول الطبيب الذى تعرض لتلك التجربة إنقاذ حياة مريض مرة أخرى فى الطوارئ؟.. أم سيفكر فى تأمين موقفه أولاً على حساب حياة المرضى؟!!

هناك قصة شهيرة تعرض لها أطباء تخدير بجامعة أسيوط منذ عام مضى.. تعرض فيها طفل لحالة نادرة من الحساسية لأحد عقارات التخدير.. ولم تكن هناك أى وسيلة لاكتشاف هذا النوع من الحساسية التى أودت بحياة المريض.. فكانت النتيجة أن تم حبس الأطباء احتياطياً حتى تم التصالح مع أهل المريض بمبلغ تعويض محترم دون مبرر واضح.. هل فكر أحد فى نفسية هؤلاء الأطباء بعدها وهم يباشرون حالات أقرب للموت منها للحياة فى استقبال الطوارئ؟ باختصار.. الوضع الحالى يؤذى الطبيب والمريض معاً طوال الوقت.. دون أن يمنح أحدهما حقه.. أو حتى يفصل بينهما بالعدل!!

من كل ما سبق يتبين للجميع أن وجود قانون عادل جديد للمسئولية الطبية هو ضرورة للحفاظ على حقوق المريض والطبيب فى وقت واحد!

المشكلة أن هناك مشروع قانون تم تقديمه للبرلمان من نقابة الأطباء بالفعل منذ أكثر من عام ونصف دون أن يلتفت إليه أحد حتى الآن.. ودون أن يناقشه أحد ويبدى رأيه سواء بالقبول أو الرفض أو حتى التعديل.. فضلاً عن غياب وزارة الصحة عن المشهد بأكمله كالعادة!!

المشروع يقضى بأن يتم الاستناد إلى هيئة متخصصة لفحص الشكاوى الطبية.. ويتم تحويل الطبيب إلى النيابة العامة للعقاب بقانون العقوبات العام إذا ثبت خطأه المتعمد.. أو يتم دفع تعويض مادى إذا كان الخطأ غير مقصود.. أما المضاعفات الطبية المثبتة علمياً فلا يتم تحميل الطبيب مسئولية عنها!

القانون يماثل الكثير من القوانين التى يتم العمل بها فى كل أنحاء العالم.. ويخضع فيه الأمر كله لمراقبة حقوقية وقضائية.. حتى لا يتم الإخلال بحقوق المرضى.. أو حقوق الأطباء!

السؤال الذى يطرح نفسه بقوة الآن هو متى تتم مناقشة القانون فى البرلمان؟.. متى يستوعب الجميع أن الوضع الحالى لا يرضى طبيباً.. ولا يحمى مريضاً؟!