بين العلمانية والإسلام (4 - 7)

رجائى عطية

رجائى عطية

كاتب صحفي

مبادئ الحكم والشورى والمساواة فى الإسلام

من المؤكد أن القرآن الحكيم قدم مبادئ للحكم، يصح بها الحكم، ويصح بها كل مجتمع موكل الأمر فيه إلى من يرعاه ويقوم على إدارة شئونه.

ولكن يبقى السؤال، هل حدد القرآن شكلاً معيناً بذاته لنظام الحكم، لا يكون الحكم إلّا به وعلى أساسه، أم أنه أورد المبادئ الحاكمة، تاركاً شكل الحكومة ونظامها إلى واقع الحياة الذى يتغير بتغير الظروف واعتبارات الزمان والمكان؟

لقد أورد القرآن الحكيم آيات واضحة الدلالة حددت مبادئ يلتزمها الحكم أياً كان نظامه، ويلتزمها كل راعٍ أو مسئول فى الإطار الذى يتولاه أو ينهض عليه أو يقوم فيه بدور.

يقول الحكم العدل عز وجل:

- {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى 38).

- {وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ} (آل عمران 159).

- {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء 215).

- {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات 10).

- {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف 110).

- {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلّا اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} (آل عمران 64).

- {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ} (ق 45).

- {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية 21، 22).

- {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (النساء 58).

ومن هذه الآيات ما يصف المؤمنين أو يخاطبهم عامة، ومنها ما يتجه بخطابه إلى الرسول (عليه الصلاة والسلام) آمراً أو موجهاً أو موصياً.

فمن صفات المؤمنين المستقاة من الآيات القرآنية أنهم إخوة، وأن أمرهم شورى بينهم، وأن العدل هو أساس الحكم فيما بينهم، وأن المجتمع الإسلامى يتسع لأهل الكتاب بالدعوة إلى كلمة سواء بينهم وبين المسلمين ألّا يعبدوا جميعاً إلّا الله، وألّا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله...

والرسول (عليه الصلاة والسلام)، مأمور من ربه سبحانه وتعالى أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأن يشاورهم فى الأمر، وخطابه لهم قوامه أنه بشر مثلهم يوحى إليه، وأن إلهه وإله الجميع واحد، وما هو عليهم بجبار، وليس عليهم بمسيطر، وإنما خطابه إليهم بالحكمة والموعظة الحسنة.. ومن المؤكد، إذن، أن القرآن الكريم تضمن مبادئ يجب الالتزام بها فى الحكم، وإن كان لم يقدم تصوراً تاماً أو صورة شاملة للحكومة، فالشورى أو المشاورة مبدأ، وعدم الاستبداد أو التجبر مبدأ، وخفض الجناح للتابعين مبدأ، والأخوة بين المؤمنين مبدأ، والعدل فى الحكم بين الناس مبدأ، وتحمل التبعة مبدأ، والتعاون فى البر والتقوى لا فى الإثم والعدوان مبدأ، والأمانة فى الحكم وفى غير الحكم مبدأ، وعدم كنز الأموال مبدأ، والتطهر بالزكاة والصدقة مبدأ.. هذه مبادئ وردت نصاً فى آيات القرآن الحكيم، ولكنها مبادئ عامة يجب التزامها، فلم يورد مثلاً تفاصيل للشورى، وإنما دعا دعوة عامة للشورى والمشاورة دون أن يحدد لها أسلوباً محدداً، ولم يورد القرآن شكلاً محدداً يمكن أن يقال إنه قدم به «حكومة إسلامية» على شكل معين، وإن كان قد قدم المبادئ التى يتعين على كل أنواع وأشكال الحكم والحكومات أن تلتزم بها.

مبادئ لا نظام سياسى بعينه

بيان القرآن الحكيم واضح جلى، فهو لم يحدد شكلاً ولا نظاماً معيناً للحكم، وإنما أورد مبادئ يلتزمها كل حكم أياً كان شكله، محكوماً بهذه المبادئ الواضحة الجلية، والمؤكد أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) لاقى ربه دون أن يستخلف أحداً بعينه، ولو استخلف لما استطاع أحدٌ من أصحابه ومن المؤمنين به أن يخالف ما أمر به، ولا كان الأنصار قد اجترأوا على أن يجتمعوا فى سقيفة بنى ساعدة يوم وفاته لمبايعة واحد منهم يتولى أمر المسلمين، ولا كان عمر بن الخطاب قد اجترأ على أن يقول لأبى عبيدة بن الجراح «امدد يدك أبايعك»، ولما اقتصر أبوعبيدة فى عتابه له على الإشارة إلى مكانة أبى بكر الصديق ولكونه ثانى اثنين إذ هما فى الغار، ولذكر استخلاف الرسول (صلى الله عليه وسلم) له، ولكان الأولى بعمر وبأبى عبيدة أن يلتزما بمن استخلفه الرسول (عليه الصلاة والسلام)، ولكان هذا هو أيضاً شأن أبى بكر نفسه الذى كان عنواناً للاقتداء بسنة النبى عليه الصلاة والسلام والالتزام بأوامره ونواهيه، ولما بدأ فى السقيفة بعرض مبايعة أحد الرجلين عمر أو أبى عبيدة، ولحاجى الأنصار والجميع بمن استخلفه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولالتزم الجميع بهذا الاستخلاف.

فمن المقطوع به أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحداً بعينه ولا حَدَّد نظاماً معيناً يلتزمه المسلمون فى الحكم، ولا تحدث إليهم بشىء من ذلك، وإنما اجتهد المسلمون، أصابوا أم أخطأوا فى اختيار نظام يديرون به شئونهم على هدى المبادئ القرآنية الواضحة قطعية الدلالة وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيما بينهم.

معالم نظام الحكم فى إطار المبادئ القرآنية

معالم الحكم الواضحة فى المبادئ قطعية الدلالة التى استنها القرآن الحكيم أن الحكومة حكومة مدنية، بمعنى أن القائم على الأمر ليس ممثلاً لله عز وجل، ولا يملك أن يتحدث باسمه، وإنْ كان عليه أن يلتزم بأوامره ونواهيه، وأن يسترشد بالمبادئ التى قررها سبحانه وتعالى لولاية الأمور.

ومن الواضح فى هذه المبادئ أن الحكومة فى هذه الآيات القرآنية لمصلحة المحكومين، لا لتجبر الحاكمين.. فليس لأحد أن يدعى لنفسه ما أُمِرَ الرسولُ (عليه الصلاة والسلام) بالتزامه، أو ما أُمِرَ باجتنابه.

فقد أُمِر الرسول (عليه السلام) أمراً واضحاً بأن يشاور المؤمنين فى الأمر، وأُمِرَ بأن يخفض الجناح لمن اتبعه من المؤمنين، وأُمِرَ بأن يوضح للناس أنه ليس إلّا بشر مثلهم يوحى إليه، وأن يحكم بينهم بالعدل، ونُهِىَ نهياً صريحاً عن أن يكون عليهم جباراً، وقيل له أن يُذكِّر، فإنما هو مُذكِّر، وليس عليهم بمسيطر.

وليس لأحد أن يدعى لنفسه ما يجاوز ما كان للرسول (عليه الصلاة والسلام).

ولم تكن سيرة النبى (عليه الصلاة والسلام) إلّا تطبيقاً لما أمره به ربه سبحانه وتعالى، فكانت نبوته نبوة تبليغ وهداية، أطاع فيها ربه، ولم يَدّع لنفسه إحاطةً بالغيب، ولا علماً يجاوز ما أمره الله تعالى بتبليغه.

أَمَره ربُّهُ عز وجل بأن يبدى للناس أنه ليس إلّا بشراً رسولاً اصطفاه ربه لحمل وأداء الرسالة {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلّا بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء 93).

وأُمِرَ عليه الصلاة والسلام بأن يوضح للناس أنه ليس منجماً ولا يعلم الغيب، ولا يملك لنفسه نفعاً لا ضراً إلّا ما شاء الله، وأنه لو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسّه السوء.. فما هو إلّا نذير وبشير لقوم يؤمنون..

يأمره ربه تبارك وتعالى: {قُل لّا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَلاَ ضَراً إِلّا مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 188).