من ليالى أديس أبابا

بعد يومين من المؤتمر الذى نظّمه الاتحاد الأفريقى فى العام الماضى بـ«أديس أبابا» بالتعاون مع بعض المنظمات التى تحارب العنصرية والتطرّف والنازية الجديدة، دعتنا السفارة المصرية هناك إلى حضور محاضرة عن تاريخ العلاقات المصرية - الإثيوبية، يلقيها كاهن الكنيسة المصرية فى إثيوبيا، ذهبت مع د. عمرو خيرى، لحضور المحاضرة، شعرت بأن الكاهن متعمّق جداً فى الموضوع، تعرّفت عليه بعد المحاضرة المرتّبة، وأشدت بها، زال عجبى بعد أن علمت أنه حاصل على الدكتوراه فى تاريخ أفريقيا، ويُجهّز للدكتوراه الثانية فى موضوعات تاريخية أفريقية.

كانت السفارة أعدت عشاءً يتناسب مع الصيام المسيحى لا توجد فيه أشياء ذات روح، كنت مشتاقاً لهذا الطعام الذى حُرمت منه عدة أيام مللت فيها اللحوم والأسماك، وجدت فى السفارة (محشى الكرنب وورق العنب والكشرى وجميع الأكلات المصرية الشهية).

بعد الطعام، انفتح الحديث حول التاريخ، وأنا من عشاقه، فمن لا يفهم التاريخ لن يفهم الحاضر ولا المستقبل، وجدت الكاهن والسفير أبوبكر حفنى محمود، ومعظم أعمدة السفارة عباقرة فى التاريخ.

أهديت الجميع بعض كتبى التى حملتها معى، كان السفير والكاهن بلدياتى من أسيوط، أما السفير أبوبكر حفنى محمود فتعود أصوله إلى أسرة عريقة فى السياسة المصرية، فهو حفيد محمد محمود باشا، ألمع فرسان السياسة المصرية فى العهد الملكى، وأكثرهم علماً وانفتاحاً.

كان السفير مُنزعجاً جداً، لأن البعض أراد تغيير اسم الشارع الذى يحمل اسم جده إلى شارع الشهداء بعد ثورة يناير، شاركته الرأى فى ذلك، فقلت: إن الذين غيّروا اسم مستشفى دار إسماعيل للولادة، ارتكبوا جُرماً فى حق مصر، فهو أقدم مستشفى ولادة فى الشرق الأوسط كله، وأى سكندرى لا يطلق عليه إلا الاسم الأصلى، حتى لو تغيّر اسمه طوال سبعين عاماً، ولو بقى المستشفى بالاسم نفسه لمثّل حضارة وتاريخاً لنا، لأنه يدل على أن مصر الحضارة أنشأت مستشفى للولادة منذ أكثر من مائة عام، وهو ثانى مستشفى للولادة فى مصر وفى الشرق الأوسط كله، وكان أطباؤه قديماً معترفاً بهم دولياً، ومن تدرّب فيه كأنه تدرّب فى بريطانيا، فأجمع الحضور جميعاً على أن تزييف التاريخ أخطر تزييف لوعى الأمة.

أدلى الكاهن والحضور بدلوهم فى ندوة فكرية مفتوحة على كل القضايا لثلاث ساعات لم نشعر خلالها بالوقت، حضرها كبير الجالية المصرية بإثيوبيا، وهو أقدم مصرى يعيش فى إثيوبيا.

عشت أياماً طويلة فى إثيوبيا، فلم أرَ أثراً لأى دولة عربية سوى الصين فى الاقتصاد، وإسرائيل فى السياسة وأمور الحكم والأمن.

سألت: لماذا لا يذهب الطلاب الإثيوبيون للدراسة فى الأزهر أو يحضر دعاة الأزهر إلى هنا، أو يكون للكنيسة المصرية دوراً هنا؟ أو يأتون عندنا؟

كانت الإجابة دائماً أن هناك دوائر خفيّة فى إثيوبيا تحول بينها وبين الانفتاح على مصر، لا يريدون أن يكون للأزهر أو الكنيسة نفوذ هنا، وبعض المتنفّذين هنا كانوا مغتاظين للاستقبال الحافل الذى استُقبل به البابا تواضروس فى إثيوبيا، وبعضهم يحب الانفتاح على إسرائيل أكثر من العرب.

وقال لى بعض المسلمين هناك: إن ميليس زيناوى هو الذى رفع بعض المظالم عن المسلمين فى إثيوبيا عرفاناً بالجميل للسودان التى آوته، فهو الذى جعل لهم أيام عيد الفطر والأضحى إجازة رسمية، أما الآن فيوم الجمعة عمل رسمى، حتى فى أثناء وقت الصلاة، والمدارس فيها حصص، حتى فى وقت صلاة الجمعة.

والبعض قال لى: إن الإثيوبيين يذكرون بالألم أن الكنيسة المصرية كانت هى التى تُعيّن الإمبراطور وتعزله، وإنها عزلت أربعة أباطرة إثيوبيين، وإنهم لا يريدون عودة السطوة المصرية على إثيوبيا مرة أخرى.

حزنت لأن الخطوط الجوية الإثيوبية وجّهت ضربة للخطوط المصرية، رغم أن مطار أديس أبابا فى غاية السوء، ولا يُقارن بمطار القاهرة، لكن طيران إثيوبيا جعل مطار أديس أبابا ترانزيت لكل أفريقيا، وقد وجدته مكتظاً بالمسافرين فى كل الأوقات ومن كل الجنسيات الذاهبين والعائدين من كل أفريقيا، مع أن مطار القاهرة أحق بذلك منه، فما نصيبنا نحن وقد أخذ مطار أديس أبابا أفريقيا ومطار دبى آسيا، لقد كنا الأقدم منهما، لكنّ سوء الإدارة أوصلنا فى كل شىء إلى هذا المنحنى الخطير.

فى آخر يوم من أيام المؤتمر، دعانى «د. عمرو» وزوجته الفاضلة «جيرمين» إلى العشاء فى منزلهما، وانضمّت إلينا سيدة مغربية وأخرى مصرية الأب وإسبانية الأم، شاركتا فى المؤتمر، والسيدة «جيرمين» هى ابنة وزير المالية البنجلاديشى، الذى قاد حركة التحرر عن باكستان وسجن من أجل ذلك.

وقد كتبت «جيرمين» قصة كفاح والدها فى كتاب كبير أثناء الثورة البنجلاديشية، التى قتل فيها الباكستانيون قرابة مائة ألف بنجلاديشى.

الغريب أنه لا أثر للعرب فى أديس أبابا سوى المطاعم اليمنية الرائعة، قلت لنفسى: ماذا لو استثمر العرب بعض أموالهم فى هذه البلاد، أليس أولى من تكديسها فى البنوك الأمريكية، أو إنفاقها على التافهين والغانيات والراقصات، عدة سهرات مع راقصات يمكن أن تبنى للعرب مجداً فى هذه البلاد، لكن إلى مَن نتحدث؟!

كانت هذه إطلالة قصيرة على رحلتى إلى العاصمة الإثيوبية «أديس أبابا»، التى وثقت رابطتى ومحبتى وعشقى للنجاشى «رمز العدل اللامحدود»، ولولا الظروف لزُرت قبره ودعوت له ورجوته أن يعود ليُعلم حكام اليوم كيف يكون العدل مع القريب والبعيد، والحبيب والخصم، ومن يوافقنا أو يخالفنا فى الدين أو المذهب أو الفكر أو السياسة.