جزيرة المكرونة!

فى الشريط السينمائى البديع «مراتى مدير عام»، كان الزوج، الذى يقوم بدوره الممثل الراحل صلاح ذوالفقار، يريد أن يزجر زوجته، التى مثلت دورها الرائعة «شادية»، ويشعرها بالتقصير والفشل بأى طريقة، انتقاماً منها، لكونها باتت مديرة فى المصلحة الحكومية، التى يعمل فيها موظفاً تحت إمرتها.

لم يجد الزوج فى الزوجة المخلصة ما يفجر خلافاً، أو يمنحه الفرصة لكى يكيل لها الاتهامات، فحين طلب العشاء، أعدته له بسرعة وإتقان، لكنه لم يكد يبدأ فى تناول طعامه، حتى صرخ غاضباً: «كل يوم فراخ فراخ؟».

اندهشت الزوجة المجتهدة، مستنكرة الاتهام الظالم، وقالت موضحة: «دى مكرونة يا حبيبى».. فما كان من الزوج سوى أن استمر على غضبه المصطنع وتعبيره عن الملل وصياحه المبالغ فيه، قائلاً: «كل يوم مكرونة مكرونة.. دى بقت عيشة تقرف».

يظل هذا المشهد من المشاهد الكوميدية ذات المغزى العميق، ونحن نتذكره ليس فقط لنضحك على السبك الفنى البديع، ولكن أيضاً لكى نضرب به المثل، ونتذكر معه «عدوك الذى يتمنى لك الخطأ»، والذى لا يتورع أبداً، لكونه مقيماً على العداء، عن اختلاق أى عيب فيك، لكى يشوهك، ويطعن فى سيرتك، ويجردك من كل ميزة.

لماذا نتذكر هذا الفيلم البديع الآن؟

على مدى الأسبوعين الماضيين، كانت قناة «الجزيرة» تستخدم كل أذرعها ومنصاتها المتعددة، كعادتها، لكى تشوه الأداء الوطنى العمومى فى مصر، وتركز سهامها المسمومة لكى تشبعه طعناً، وتبحث عن أى نقيصة أو ثغرة لكى تنفذ منها بخناجر النقد، وإن عجزت عن ذلك، فلا تتورع عن اختلاق المشاكل والعثرات واصطناعها اصطناعاً.

حاولت أن أستخدم منهج تحليل المضمون لكى أتعرف إلى ما يضايق «الجزيرة» من مصر، ويحملها على الهجوم المتواصل على حكومتها، رغم وجود العديد من الإنجازات التى مهما اختلفنا بصددها، لا نملك سوى أن نعترف أنها حيوية وتستحق التقدير.

ففى تلك الفترة بالذات، استطاعت مصر أن تحقق اختراقات مهمة، شهد بها العالم، فى السياسة الخارجية؛ ومن بين هذه الاختراقات بطبيعة الحال النجاح المميز والعزيز فى وضع «فتح» و«حماس»، ومعهما بقية الفصائل الفلسطينية المهمة، على طريق المصالحة، الذى يمكن من خلاله استعادة وحدة الشعب الفلسطينى، وصولاً إلى تحقيق أهدافه الوطنية فى الاستقلال والعزة.

ليس هذا فقط، لكن مصر أيضاً استطاعت بدأب وصبر، وفى كتمان ونكران ذات واضحين، أن تسجل نجاحاً نادراً على الساحة السورية، بعدما نجحت فى عقد اتفاق هدنة بين الأطراف المتقاتلة فى جنوب دمشق.

يظل هذا عملاً مميزاً وجديراً بالاعتبار، ليس فقط لأنه يأتى فى وقت حرج، تحتاج فيه سوريا إلى قدر من الاستقرار والسلام، لإنقاذ أرواح أشقائنا من أبناء الشعب السورى، ولكن أيضاً لأنه جرى من دون ضجيج، ومن جانب دولة لم تتلوث أيادى أبنائها بدماء أشقائهم السوريين، وليس لها مصلحة فى الحالة السورية سوى تحقيق الاستقرار، والحفاظ على وحدة هذا البلد العزيز، وصيانة ترابه الوطنى.

إلى جانب تلك الإنجازات، وغيرها كثير، على الصعيد الخارجى، فإن المؤشرات الاقتصادية آخذة فى التحسن، ومشروع العاصمة الإدارية بدأ يعلن عن نجاحه، بموازاة عدد من المشروعات التنموية المبشرة.

لا يمكن أن ننكر أن الأداء العام للحكومة يعانى الكثير من العوار والنقص، وأن مشكلة الديون المتفاقمة تؤرق المتخصصين والجمهور، وغلاء الأسعار يكوى قطاعات واسعة من المواطنين، وملف الحريات يعانى الكثير من المشكلات، التى تستحق الاهتمام، وتسوغ لنا انتقاد الحكومة، ومطالبتها بمزيد من الإجراءات الإصلاحية.

لكن معالجة «الجزيرة» لم تكن متوازنة كغيرها من وسائل الإعلام الكبرى، ولم تكن إيجابية كغيرها من وسائل الإعلام الإقليمية النافذة، بل كانت أكثر مسخاً وبلاهة من بعض أسوأ معالجاتنا الإعلامية المحلية التى تغرق نفسها فى مديح لا يتوقف، وتمتنع عن توجيه أى نقد.

استناداً إلى تحليل مضمون «الجزيرة» فى الأسبوعين الفائتين، بدا أنها تخلت عن آخر أوراق التوت التى تستر عوراتها فى تغطيتها للشأن المصرى، وأنها بددت عقلها بعدما فقدت احترامها واعتبارها.

فى مواكبة ذكرى انتصار أكتوبر المجيد، راحت القناة تتحدث عن الجيش المصرى بعدم احترام، وتقول ضمن مقولاتها الأساسية المتكررة إن «الرصاصة لم تعد فى جيب الجندى المصرى»، وإن السيسى «لم يتلفظ بكلمة إسرائيل خلال الاحتفال بعيد النصر»، وهى تريد من ذلك الإيحاء بأن الجيش فقد فاعليته، ولم يعد مقاتلاً بالقدر الذى يحقق المهابة.

لكن بموازاة نشر الأخبار عن «صفقة الأسلحة» التى زعمت «نيويورك تايمز» أن رجال أعمال مصريين استوردوها من كوريا الشمالية لصالح الجيش، راحت تطنطن بأن مصر تقيم علاقات عسكرية مع بيونج يانج، وتستورد منها السلاح لبناء الجيش وتعزيز قدرته، «فى مخالفة واضحة للقرار الأممى بالحظر على كوريا الشمالية، وفى تجرؤ ظاهر على علاقاتها الاستراتيجية بواشنطن».

لم نعرف إذن إذا كانت مصر تفرط فى قدرتها العسكرية، أم أنها تبذل كل جهد لكى تزيد قدراتها التسليحية، وتعزز قوتها، ورغم أن وزارة الخارجية نفت تلك الأخبار المزعومة، فإن «الجزيرة» تعاملت معها باعتبارها حقيقة ووصمة فى آن.

لو كانت مصر فعلت ذلك، كما تقول «الجزيرة»، فهى ليست مخطئة على أى حال، بل إن هذا التصرف يمثل رداً على زعمها الأول بأن «الرصاصة لم تعد فى جيب جنودنا»، وإن كانت لم تفعل.. فلماذا الكيد ومحاولة الصيد فى الماء العكر؟

الشىء نفسه حدث مع «حماس»، التى راحت «الجزيرة» تنتقد كونها باتت «شريكاً استراتيجياً» لمصر، تستجيب لها وتنسق معها، لتحقيق المصالحة المرجوة، بعدما كانت «عدواً» وذراعاً لـ«الإخوان».

ليس هذا فقط، لكن «الجزيرة» أيضاً راحت تذرف الدموع فى تغطيتها لموضوع إخلاء سكان منطقة «ماسبيرو»، ومنحهم تعويضات أو سكناً بديلاً، ضمن مشروع تطوير المنطقة، وإنهاء العشوائية المهيمنة عليها، لتصبح معلماً حضارياً فى هذا المكان المميز، بعد عقود من الإهمال والتسيب.

تذرف «الجزيرة» الدموع الحارة على سكان منطقة «ماسبيرو»، وتتصيد بعض المواطنين، الذين يعارضون خطة التطوير، ويستنكرون السكن فى شقق حديثة، ضمن مجتمعات مخططة جيداً، داخل القاهرة، أو يرفضون مبلغ التعويض المعتبر.

ومع هؤلاء المدعين، وجدت أيضاً من قالت إنه «خبير إسكانى»، وهو خبير لم يجد ما يقوله بشأن الموضوع سوى استنكار خطة الحكومة وأدائها فى هذا الملف، حتى إنه قال بجرأة بالغة: «الحكومة تعتدى على حق المواطن البسيط فى السكن بجوار النيل»!

إن تركت الحكومة المواطنين فى سكنهم العشوائى، خلف مبنى «ماسبيرو» فى أفضل بقاع القاهرة، ستغنى «الجزيرة» وترقص، وترسل الأطقم المأجورة، لكى ترصد الفقر والعوز والتردى، وإن قامت الحكومة بواجبها، وأخلت الحكومة السكان ومنحتهم تعويضات مناسبة، أو نقلتهم إلى مجتمعات عمرانية حضارية، ستبكى «الجزيرة» وتصرخ ملتاعة، لأن «المواطنين البسطاء حُرموا من السكن بجوار النيل».

«جزيرة المكرونة» دخلت عالم الكوميديا باقتدار، وبدلاً من النجاح والازدهار الزائفين، باتت على مرمى حجر من مستشفى المجانين.