من الذى سيُحارب كردستان أولاً؟

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

ارتكزت مراهنة «مسعود بارزانى» فى القدرة على تمرير استفتاء تقرير المصير لإقليم كردستان العراق، على نقطتين جوهريتين، الأولى أن الأطراف الإقليمية والدولية فى رفضهم تلك الخطوة الكردية، سيكونون جميعهم عالقين بأطراف معادلات أخرى فى الإقليم ذاته وتوازناته، مما سيضع ردود فعلهم فى حدها الأدنى، أو على الأقل بالآلية التى تضمن الحفاظ على التوازنات الهشّة التى لها تماس جغرافى بتلك القضية. والثانية أن هذه الأطراف ذاتها والمجتمع الدولى سيتجهون ناحية التعامل بـ«براجماتية» مع الخطوة الكردية، وسيذهبون إلى القبول بالأمر الواقع، ليبدأ كل منهم فى تجهيز أجندته المتوقّعة من منظور التعامل مع تلك الدولة الوليدة.

الداعمان الرئيسيان كردياً لتلك المراهنة، هما العائلة «آل بارزانى» و«الحزب الديمقراطى الكردستانى». وكلاهما قُبيل الاستفتاء كانا محل جدل داخلى كبير، فثمة حزمة من التحفّظات بشأنهما، العائلة متهمة بفساد الاستحواذ على معظم المعاملات التجارية ما بين الإقليم والأطراف الخارجية المتعامل معه، وهو يعكس صورة ونمطاً كلاسيكياً يفتقر إلى الهيكل المؤسسى لإدارات الحكم، ويستبدله بشخصيات من عائلة «بارزانى» وبعض الأصهار والدوائر الضيقة المتحلقة حولها، حيث يقبضون بصورة خشنة على مفاتيح صناعة الثروة بالإقليم. ويأتى هذا على خلفية اعتبار «بارزانى» وحزبه أنفسهما الملاك الوحيدين لكردستان العراق، بعد الانتصار فى الحرب الأهلية أمام الغريم «الاتحاد الوطنى الكردستانى» ورئيسه «جلال طالبانى» بين عامى 1994 و1998.

تلك الحرب لم تكن حينها داخلية تماماً، ففيها وقفت تركيا خلف «بارزانى» وحزبه، فى الوقت الذى لعبت فيه إيران شوطاً كبيراً لدفع «طالبانى» وحزب الاتحاد للفوز، لكنها لم تفلح. ومنذ هذا التاريخ المبكر سارت معادلات التحالف على هذا النحو، «بارزانى» رجل أنقرة يحارب لحسابها «حزب العمال الكردستانى» التركى ورجال «عبدالله أوجلان»، وينسج علاقات وثيقة بالاستخبارات التركية امتدت إلى ما هو أبعد من المعلومات والجهد الأمنى والعسكرى. ففى فصلها التالى كانت الروابط التجارية بين «العائلة» الكردية و«العائلة» الأردوغانية، صانعة المليارديرات على كلا الجانبين، مما نقل «بارزانى» وحزبه إلى مستوى فائق من القدرات المالية جعله يسبق الآخرين داخل الإقليم بمسافات. حتى وصلا «معاً» إلى الفصل الداعشى، وفيه اشترى رجال «العائلة» الكردية النفط من قيادات تنظيم داعش ليقوموا بنقله سراً إلى المرافئ النفطية التركية، وهناك تتسلمه «العائلة» الأردوغانية ليقوموا بدورهم بضخه إلى ميناء «أشدود» الإسرائيلى. تلك الصفقة الأخيرة استمرت خلال عامى 2012 و2013 من نفط الحقول السورية، وتضخّمت عامى 2014 و2015 مع سيطرة «داعش» على ثلث النفط العراقى تقريباً، والمصافى التى ظلت تضخ ملايين البراميل يومياً.

أحد الأسباب غير المعلنة لمسارعة قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة أكتوبر 2014م بالوصول إلى العراق، كانت من أجل فض هذه الشراكة الثلاثية (أردوغان/ بارزانى/ داعش) وتضييق مساحات الحركة أمامهم، فهذه الصفقة الممتدة حوّلت على الأقل «داعش» إلى تنظيم إرهابى ملياردير، ودفعته سريعاً للخروج من فلك مشغليه الأصليين بما تمتع به من إمكانيات ذاتيه. كانت تلك العجلة الأمريكية حتى قبل أن يتم تخطيطها لـ«الحرب على الإرهاب»، بسبب المعلومات الاستخبارية التى ظلت تدق أجراس الإنذار داخل مكاتب إدارة «أوباما» المتباطئة لشهور، وفحواها الرئيسى أن تلك الصفقة «محمية» بمستوى رفيع من النفوذ فى كل من تركيا وكردستان، مما يضمن لها استمرارية غير قلقة، ففى الأولى كان يقف وراءها «نجل» رجب أردوغان مباشرة، عبر إحدى الشركات المملوكة له، والثانية يقوم بتنفيذها وتسلم عوائدها رجال من الدائرة الضيقة حول «العائلة» فى أربيل.

لم تكن الولايات المتحدة وحدها المعنية بهدم تلك الشراكة، فقد كانت إيران بدورها رغم انخراطها العميق حينئذ فى سوريا، تشعر بأن هناك من سبقها بخطوات بعيدة على الساحة العراقية، فهى رغم نفوذها الكبير على حكومة بغداد طوال سنوات حكم «المالكى»، لم تنجح سوى بوضع حليفها القديم «جلال طالبانى» على مقعد الرئاسة الشرفى. لكن ظل الاستثمار العميق على أرض كردستان لصالح أنقرة طوال الوقت، رغم الضجيج الإعلامى الذى نجحت الأخيرة فى تسويقه حول العالم. ولهذا ألقت بثقلها وراء تشكيل «الحشد الشعبى» ليس لملاقاة «داعش» وحدها، بل استعداداً لخوض جولات متوقعة ضد فصائل «البشمركة». فتلك الأخيرة هى المرشحة لدخول المناطق المتنازَع عليها مع الحكومة المركزية ببغداد، فـ«كركوك» ونفطها الذى يسيل له لعاب «بارزانى» ويراه مخرجاً للإقليم من ارتباكه الاقتصادى، ليس أكثر ما يُقلق «طهران» بقدر اهتمامها بالتمدّد الجغرافى البرى من العراق إلى سوريا، وصولاً إلى لبنان، والمهدّد بهذا الجسم الكردى الناشئ، الذى قد يحرم إيران من «الجائزة» التى حدّدتها لنفسها، وهو ما تقف له الأطراف المناوئة للنفوذ الإيرانى بالمرصاد لإجهاض تحقيقه.

التوقّف بعناية أمام تقديم «بارزانى» نفسه للداخل الكردى والمجتمع الدولى كونه «صاحب» الاستفتاء، و«حامل» الحلم الكردى، يعكس أزمة حكم عميقة يواجهها «بارزانى» وحزبه. وهذا الاختيار الزمانى قبل انقشاع غبار «الحرب على الإرهاب»، هو رهان اللحاق بالعربة الأخيرة لقطار التسويات والمصالح. فهو من ناحية يُحقق ضمانة تأمين وإغلاق ملف «صفقات الحرب»، وعلى جانب آخر يوفر إمساكاً آمناً بمفاتيح المستقبل المشروع.

من قبيل هذا، ما وقعته مؤخرا شركة الطاقة الروسية «روزنيفت» كاتفاقية استراتيجية مع إقليم «كردستان العراق»، لبناء خط أنابيب إلى تركيا، يسمح لها بإرسال ما يصل إلى (30 مليار متر مكعب) من الغاز سنوياً، لإشباع الطلب الأوروبى. وستستفيد أيضاً سوق الغاز الكبيرة فى تركيا من هذه المبادرة الجديدة، هذا مما تم التباحث بشأنه بين الرئيس بوتين ونظيره التركى فى أنقرة مؤخراً، حيث ترى «موسكو» أن استثماراتها الكبرى، قادرة أيضاً على أن ترفع صادرات النفط فى إقليم «كردستان العراق» من مستواها الحالى البالغ نحو (650 ألف برميل) يومياً، لتصل إلى مليون برميل.

وعن القطار الأمريكى - الإسرائيلى، الذى يملك قوة دفع جبارة على القضبان ذاتها، يدور حديثنا الأسبوع المقبل بمشيئة الله.