آسيا الجديدة.. باكستان فى عامها السبعين

حين وُلدت دولة باكستان عام 1947.. توقَّع البعض ألا تصمُد طويلاً.. وأنها قد تعود إلى الهند -حيث كانت- بعد قليل.

مضت سنوات ثم عقود.. ولم تسقط باكستان.. وإنَّما أصبحت دولة نووية.. هى الدولة الوحيدة فى العالم الإسلامى التى تمتلك قنبلة نووية.

تدخل باكستان الآن إلى عقدها الثامن بعد أن وصلت السبعين عاماً.. ولا يزال البعض يتوقَّع -مرة أخرى- ألاَّ تصمُد باكستان طويلاً.. وأنها تعيش أوقاتها الأخيرة.. أو حسب عنوان كتاب الباحث الباكستانى أحمد راشد «باكستان على وشك السقوط».

(1) تأسَّست باكستان.. لتكون دولة للمسلمين، وكان تقدير بعض المثقفين المسلمين.. هو البقاء داخل الهند.. لتكون الهند قوة كبرى تضم ديانتين كبيرتين: الإسلام والهندوسيّة.

ولكن البعض رأى.. تقسيم الهند وتأسيس دولة للمسلمين هى باكستان. كانت بنجلاديش جزءاً من باكستان.. هى الجانب الشرقى من الدولة.. وفى عام 1974 استقلت بنجلاديش المسلمة عن باكستان المسلمة. واليوم يوجد ثانى أكبر عدد للمسلمين فى العالم داخل باكستان، وثالث أكبر عدد داخل الهند.. وإجمالى عدد المسلمين فى الهند وباكستان وبنجلاديش يزيد على نصف المليار مسلم.. ففى هذا المكان يعيش قرابة ثلث المسلمين فى العالم.

(2) لا يعرف الكثيرون الكثير عن باكستان.. ولا تشرح نشرات الأخبار على نحوٍ جيِّد حقائق السياسة فى ذلك البلد الكبير.. وحين رفضت باكستان الانضمام إلى التحالف العربى فى اليمن ضد الحوثيين.. كان الجميع مندهشاً.. كيف تحرج باكستان السعودية إلى هذا الحدّ؟

إن عدداً كبيراً من صناع القرار أنفسهم.. لا يعرفون التركيبة السياسية والقبليّة والمذهبية فى باكستان. هم لا يعرفون الوزن الشيعى فى الجيش والسلطة، ولا مكانة النخبة الشيعية فى بناء وبقاء الدولة.. كما لا يعرفون الكثير عن الصراع المذهبى بين الشيعة والسنة، وبين الشيعة والشيعة، ثم بين السنة والسنة. ولقد شرحت فى كتابى «الجهاد ضد الجهاد» جوانب من ذلك المشهد المعقد والصعب للغاية. ففى باكستان تقف حركات الإسلام السياسى السنيّة من طالبان وداعش والقاعدة ضد المسلمين السنة.. وفيها أيضاً تسطَع الخلافات بين الشيعة الاثنا عشرية وبين الشيعة الإسماعيلية.. وبينما يتحدث غلاة الشيعة الاثنا عشرية عن تأسيس دولة مستقلة فى شمال باكستان عند الحدود مع الصين باسم «جمهورية قراقرم».. يتحدث غلاة الشيعة الإسماعيلية الأغاخانية عن دولة مستقلة فى منطقة «جترال».. على الرغم من أن نسبة الشيعة فى باكستان تزيد قليلاً على العشرة فى المائة!

إنَّ الرئيس محمد على جناح مؤسس باكستان، شيعى اثنا عشرى، كما أن ذوالفقار على بوتو مؤسس البرنامج النووى وكذلك ابنته الزعيمة بنازير بوتو.. من الشيعة الإسماعيلية. كما كان الدكتور محمد عبدالسلام هو الآخر الحائز على جائزة نوبل فى الفيزياء من الشيعة الإسماعيلية. ويصل عدد الشيعة فى الجيش الباكستانى إلى نحو ثلث الجيش تقريباً.

لقد كان التفاهم الشيعى السنى واسعاً عند التأسيس.. ولا يعرف أحدٌ «القائد الأعظم» محمد على جناح باعتباره شيعياً.. وإنما باعتباره زعيم الاستقلال الذى يحظى باحترام الجميع.. ولا يجادل باكستانى سنّى فى رفعة مكانته وعلّو منزلته.

ولا يعرف الكثيرون أيضاً مذهب السيدة بنازير بوتو.. وكانت كل صحف الدول الإسلامية تحمل عنواناً واحداً حين وصلت إلى السلطة «أول سيدة تحكم دولة إسلامية».. ولم يُشر أحدٌ وقتها إلى مذهب بنازير بوتو أو مذهب والدها الذى بدأ طريق القنبلة النووية الباكستانية.

لكن ذلك كان يخفى وراءه صعوداً تدريجياً لغلاة السُّنة والشيعة على السواء.. وكانت الاحتكاكات ثم الاشتباكات المذهبية تتزايد يوماً بعد يوم.. حتى صارت معارك تستخدم فيها الصواريخ بين الجانبين.. وفى الأعوام الأخيرة قُتل الآلاف جرّاء الصِّدام المذهبى.

لقد كانت ثورة الخمينى وراء ذلك الصعود للصراع المذهبى.. وقبل «الخمينى» وثورته.. لم يشهد العالم الإسلامى ذلك الصراع السنى الشيعى لفترات طويلة.

فى العام التالى مباشرة لثورة الخمينى 1979.. وفى عام 1980 بدأ الصراع المذهبى فى الاحتدام.. وحسب الإحصاءات.. فقد قُتل فى الفترة من 1980-2005 أكثر من (40) ألف شخص فى الصراع بين السنة والشيعة.. ولا تزال الأيام العشرة الأولى من شهر محرم كل عام.. أياماً للقتل والدمّ!

لقد جاءت بعد ثورة الخمينى.. حركة طالبان.. الوجه الآخر لمحنة المسلمين.. ثم جاءت داعش لتكمل المشهد الأليم.

واليوم فإن باكستان التى تشهد عدم استقرار سياسى.. وتشهد حرباً باردة مع الهند.. تواجه الكثير من الآلام.. وبينما تتجه أمريكا للتحالف مع الهند.. وتسعى الهند للقيام بدورٍ فى أفغانستان.. تشعر باكستان أنها تُرِكت وحدها تواجه مصيرها.. فى مواجهة التطرف والإرهاب.. وفى مواجهة الهند والاقتصاد.

تذهب مؤسسة «راند» البحثية الأمريكية.. إلى أن باكستان قد تواجه سقوطاً.. وأن واشنطن لديها خطة للاستيلاء على الترسانة النووية الباكستانية قبل أن تصل أيدى الإرهابيين إليها.

(3) تدور باكستان وسط هذا كله بين عائلتين تمثلان معاً «الإقطاع السياسى» فى باكستان.. عائلة «شريف» وعائلة «بوتو».. ففى عائلة «شريف» التى تسيطر على حزب الرابطة: نواز شريف، وشهباز شريف، وحمزة شريف، ومريم نواز شريف!

وفى عائلة «بوتو» التى تحكم حزب الشعب: كان هناك ذوالفقار على بوتو وابنته بنازير بوتو وزوج ابنته آصف زردارى.. والآن ابن السيدة بنازير بوتو. وبينما باكستان تشهد ذهاباً ثم عودة ثم محاكمة نواز شريف.. تشتد الحرب الباردة مع الهند.. وحين هاجمت باكستان الهند فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة 2017.. واتهمتها برعاية الإرهاب.. ردَّت وزيرة الشئون الخارجية الهندية: «انظروا من يتحدث.. أكبر بلد مصدر للخراب والموت فى العالم.. صار بطلاً للنفاق عندما وعظَ باسم الإنسانية».

(4) لستُ واحداً ممن يرون أن الوضع فى باكستان يدعو إلى اليأس، أو أن باكستان -حقاً- على وشك السقوط.

باكستان بلد كبير ومهم فى آسيا والعالم، والشعب الباكستانى شعب جادّ وطموح.. ولديه الكثير من الخصال الرائعة والقدرات الخلاّقة.. ويمكن اعتبار كل ما سبق مجرّد نماذج للتحديات.. شأنها شأن دول أخرى حول العالم.. وعلى ذلك يمكن تجاوزها وحلّ معضلاتها.

إن عودة التسامح الدينى.. وتعزيز الوسطية والاعتدال.. وكذلك توسيع مساحة النخبة السياسية والحوار مع الهند.. يمكن أن يكون مدخلاً لباكستان أقوى.. ويمكنها بعد عقد آخر أن تحتفل -فى ظروفٍ أفضل- بعامها الثمانين.

إن جديد باكستان هو أحد الملامح الكبرى فى آسيا الجديدة.

حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر