فى حضرة الأساتذة.. نجيب محفوظ وجمال الغيطانى

فى الخامس عشر من أكتوبر عام 1994، تعرض الكاتب الراحل «نجيب محفوظ» إلى محاولة اغتيال على يد أحد أفراد الجماعات المتطرفة التى شنت حملات معادية وهجومية على أعماله الأدبية، وصلت إلى حد تأليف كتب عن روايته الشهيرة «أولاد حارتنا»، ولم يكتفوا بتكفيره فقط؛ فقاموا بإطلاق فتوى تحل وتجيز قتله، وبناء على تلك الفتوى قام أحدهم بمحاولة أغتياله بطعنة قاتلة فى رقبته نالت منه بالفعل، ولكنه تجاوز تلك المحنة بعد أن خضع لعملية جراحية أدمت قلوب كل من أحبوه من تلامذته وكان على رأسهم الكاتب الصحفى «جمال الغيطانى».

أدرك «جمال الغيطانى» من اللحظات الأولى فى تلك المحنة أن الطعنة التى تعرض لها «نجيب محفوظ» لن تكون الأخيرة فهناك العديد من الطعنات فى انتظاره ولكنها لن تكون فى الجسد، بل فى آراءه ومعتقداته؛ لذلك قرر«الغيطانى» أن يبدأ فى تسجيل كافة اللقاءات التى جمعته ب نجيب محفوظ من خلال مجالسه، تلك المجالس التى أستمرت حتى عام 2004 حين قرر«جمال الغيطانى» أن يسجلها فى كتاب بعنوان «المجالس المحفوظية» الصادر عن دار الشروق للنشر عام 2004، والذى أعتبره الوسط الثقافى جولة فى حياة نجيب محفوظ الفكرية والأدبية وملامح واضحة وصادقة من حياته الخاصة.

بدأ الكاتب أحداث الكتاب  بمقدمة تعد من أهم أجزاءه؛ فقد شرح من خلالها الدافع وراء مشروع الكتاب وكيف كانت الفكرة فى البداية مجرد تسجيل احتفظ به الكاتب بشكل شخصي، حتى عرض الفكرة على «نجيب محفوظ » ورحب الأخير بها فخرجت المجالس إلى نور النشر، وقد جاء الكتاب فى ثلاثة فصول يبدأ كل منها بمقدمة بسيطة تمهد إلى محتواه.

يبدأ الغيطانى الحديث عن المجالس برواية موقف شخصى حين ذهب مبكرا عن موعده إلى أحد مجالس «نجيب محفوظ»،التى كانت تعقد فى مقهى الأوبرا عام 1960، ليجد نفسه بمفرده فى مواجهة الأستاذ كما أعتاد أن يلقبه؛ فيباغته محفوظ بالسؤال: لما تكتب يا جمال؟ يرتبك الغيطانى ولكنه يجيب بسرعة  "أكتب لأننى أريد أن أكتب".

بهذا الموقف السابق بدأت صداقة فريدة من نوعها فى الوسط الأدبى وعلى المستوى الإنسانى أيضا بين جمال الغيطانى ونجيب محفوظ استمرت حتى رحيل الأخير عام 2006، كما أنه يعد نقطة هامة فى التعريف بشخص «نجيب محفوظ» فمجالسه على غير المألوف الآن لم تكن تدور حوله فقط بمعنى؛ أن يسأل الحاضرون ويجيب هو بل كان ينصت لضيوفه ويسألهم أيضا؛ فهذا السؤال الذى وجهه الأستاذ للغيطانى ربما كان يسأله لنفسه ويبحث عن إجابات لدى الآخرين.

كما يحتوى هذا الجزء على مجموعة من الأسئلة التى كانت توجه إلى نجيب محفوظ  حول أعماله الأدبية والأحوال المحيطة به محليا وعالميا على كافة المستويات، تلك التساؤلات التى مازالت تخطر على بال كل منا حتى الآن.

 من منا لم يتسائل عن أول تجربة فى الكتابة لنجيب محفوظ، ليجيب الأخير أن أول قصة سعى لنشرها كانت فى مجلة «الثقافة» ولم يكن المدهش له فى ذلك الوقت الموافقة على النشر بقدر اندهاشه أن القصة كانت تكتب بمقابل مادى وكان فى ذلك الوقت جنيها واحدا، ومن منا لم يتسائل عن علاقة نجيب محفوظ بأساتذته مثل «عباس محمود العقاد» الذى كان يشرف على الصفحة الأدبية فى جريدة الجهاد التي كان يكتب  لها نجيب محفوظ  فى ذلك الوقت، كما أن نجيب محفوظ  كتب مقال ردا على آراء العقاد الذى قلل من شأن القصة فى مقابل تحيزه للقصيدة وبالرغم من ذلك لم يلتقيه أو يسعى إلى مجلسه.

ومن أهم العلاقات الأدبية بالنسبة ل نجيب محفوظ  كانت علاقته بالكاتب «توفيق الحكيم»، فقد كان الصالون الأدبى الوحيد الذى واظب محفوظ على حضوره أثناء قضاء عطلته الصيفية  فى مدينة الإسكندرية، بالإضافة إلى أنه وصف رواية توفيق الحكيم الشهيرة «عودة الروح» بأنها كانت فتحا أدبيا بالنسبة للرواية العربية.

ومن المجالس العامة لنجيب محفوظ التى اعتاد على حضورها كل من "الأديب يوسف القعيد، المهندس عماد العبودى، الدكتور ذكى سالم والروائي نعيم صبرى والأستاذ ياسين التهامى"، ننتقل إلى المجالس الخاصة التى عقدت بانتظام يوم الإثنين من كل أسبوع عام 1978 من يونيو وحتى أكتوبر، التى جمعت بين نجيب محفوظ وجمال الغيطانى فقط.

تعتبر تلك المجالس الخاصة سيرة ذاتية؛ فقد صرح نجيب محفوظ شخصيا أن هذا الجزء قد أغناه عن كتابة سيرة ذاتية، بالإضافة إلى أن الكاتب قام بتقسيم هذا الجزء إلى مراحل هامة فى حياة محفوظ، بدأت من الأمور الخاصة إلى العامة وكأن صاحبها هو من يرويها بالترتيب.

ليبدأ ب «مرحلة الطفولة والشباب»، ولد نجيب محفوظ بحى الجمالية حيث تعلم  أول دروس الانتماء والوطنية حين شاهد جموع البسطاء من الحوارى المصرية يشاركون فى ثورة 1919، ويرددون أسماء الزعماء مثل سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد هذا الدرس الذى يفسر أعتزاز نجيب محفوظ بثورة 1919 وسرد أحداثها فى العديد من أعماله الأدبية، كما شاهد أيضا فى هذا الحى العديد من الفتوات وصراعاتهم التى كتب عنها فيما بعد.

انتقل نجيب محفوظ فى سن الثانية عشر للحياة فى حى العباسية حيث مرحلة الشباب ومعرفة الصداقة الحقيقية "شلة العباسية" كما أعتاد أن يلقبهم ، تلك الصحبة التى لم ينقطع عن مجلسها يوما، وقد تشابهت ملامح وصفات أفرادها مع العديد من أبطال أعماله كما حدث فى الرواية الشهيرة «المرايا».

بالرغم من أن نجيب محفوظ ترك منطقة الجمالية والحسين فى سن مبكرة إلا أن تلك الفترة من حياته ظلت حاضرة فى ذاكرته  بقوة وقد استطاع ان يستعيدها  فى رواية «حكايات حارتنا» التى أعتبرها جزء من سيرته الذاتية الخاصة بمرحلة الطفولة، كما ظلت منطقة الجمالية حاضرة فى أعماله بالصورة الجغرافية والتاريخية وحدود المكان الذى يحتضن الأبطال كما حدث فى الثلاثية الشهيرة.

 «الوظيفة» عرف عن نجيب محفوظ التزامه بنظام صارم فيما يخص عمله الحكومى، وراودته فكرة ترك هذا العمل أكثر من مره لكنه كان مصدر دخله الوحيد حين يتفرغ للكتابة، فعلى سبيل المثال حين تفرغ لكتابة الثلاثية فى أربع سنوات لم يكن هناك دخل آخر سوى وظيفته الحكومية.

«المقاهي»  بدأت علاقة محفوظ بالمقهى منذ مرحلة الشباب؛ فقد نشأ فى عصر لم تكن البيوت فى ذلك الوقت تسمح بتجمع الأصدقاء أو "الزيطة" وفقا لتعبيره، ولم يكن هناك "نادى" للتجمع فى ذلك الوقت أيضا، وأضاف أن الكثير من أعماله الروائية ولدت أفكارها بين الناس فى المقهى؛ مثل رواية "الكرنك"  التى قرر كتابتها عقب رؤيته  "حمزة البسيونى" مدير السجن الحربي الأسبق عن بعد فى مقهى الفيشاوى.

«أعماله الروائية» هل تخيل أحد منا أن نجيب محفوظ لا يملك أرشيف لأعماله أو نسخة أخرى لتلك الأعمال، فالنص الذى يكتبه بخط يده هو ما يذهب به إلى الناشر مباشرة وإذا لم ينشر وترك «محفوظ»  النسخة لدى الناشر يفقدها إلى الابد! وقد حدث ذلك بالفعل فى الثلاثية الشهيرة التى كتبت فى بداية الأمر جزء واحد بعنوان "بين القصرين" تجاوز عدد صفحاتها الألف واستحال نشرها فى ذلك الوقت كرواية متكاملة؛ فتركها لدى الكاتب الراحل «يوسف السباعى» حتى أقترح الأخير نشرها على حلقات فى مجلة «الرسالة الجديدة»، إلى أن تم نشرها فى ثلاثة أجزاء منفصلة " بين القصرين، قصر الشوق، السكرية".

وبالرغم من الإرث الأدبى المتنوع الذى تركه لنا نجيب محفوظ مازلنا نختلف حول أيهم الأهم، وأجمع الكثيرين أنه رواية "الحرافيش" وقد وافق محفوظ قراءه فى هذا الرأى لكنه صارح أصدقاءه فى أحد مجالسه أن رواية "حديث الصباح والمساء" هى أهم ما كتب بالنسبة له دون أن يبدى أسباب لذلك.

تنتهى المجالس المحفوظية بوقفة طويلة أمام المجموعة القصصية "أصداء السيرة الذاتية" التى كتبها نجيب محفوظ بعد عودته من الخارج عقب إجراء عملية جراحية فى القلب، وخرج للنشر بعد محاولة الاغتيال التى تعرض لها بعام واحد، فقد كانت عمل أدبى فريد فى لغته النثرية ونتيجة تأملات مرحلة عصيبة مر بها نجيب محفوظ، بالإضافة إلى أن الوسط الثقافى كان ولازال يعتبر هذه الأصداء خلاصة تجربة نجيب محفوظ الإنسانية؛ لذلك هو الأقرب لأن يكون سيرته الذاتية، ومن هذا المجلس يذهب بنا الغيطانى إلى دار الشروق للنشر يروى لنا تفاصيل تعاقد محفوظ معها لطباعة أعماله، وبالفعل مازالت تصدر أعماله عن دار الشروق حتى الآن.

وبنهاية صفحات الكتاب ندرك أن «الغيطانى» لم يكن تلميذ محب ل «نجيب محفوظ» فقط بل صديق وجزء لا يتجزأ من حياة أديبنا؛ فهو لم يشاركه المجالس فقط بل جولاته اليومية فى شوارع القاهرة، وخواطره التى لم يفضى بها لأحد.

رحل «نجيب محفوظ» منذ إحدى عشر عاما، وبعد أقل من شهر يمرعلى رحيل «جمال الغيطانى»  عامين، وبالرغم من ذلك لم أشعر لحظة واحدة أثناء قراءة الكتاب برحيلهم؛ فقد أراد الغيطانى أن يحيي ذكرى محفوظ إلى الأبد فخلد ذكراه هو الآخر بقدر إخلاصه ودقته فى التوثيق ومصداقية كلماته.

سلاما على روح نجيب محفوظ وجمال الغيطانى أدباءنا الكبار ثروة مصر الحقيقية، صوت تاريخها الصادق وضميرنا الحى الباقى إلى الأبد