صفقة لبنان.. أضواء كاشفة لظلام صاخب

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

على طول الامتداد الزمنى للمأساة السورية منذ 2011م، يومض كل فترة فى أحد فصولها المتعاقبة ضوء كاشف يضرب عيون المتابعين، وغيرهم ممن سأم وأحبط جراء سيل التفاصيل المربكة. هذه المرة جاء الضوء الكاشف من الصفقة التى أبرمها «حزب الله» مع مقاتلى «داعش»، للخروج من الأراضى اللبنانية قاطعًا الطريق بها «الصفقة» على تحقيق الجيش اللبنانى انتصاراً عسكريا كان ملك يمينه بعد أداء تكتيكى متميز، مقابل مجموعة متوسطة (500 مقاتل) داعشى فى أعلى التقديرات. حتى بدا أن قدرات وسمعة الجيش كانت هى المستهدف بالظهور المفاجئ لـ«حزب الله».

ففى الوقت الذى كانت فصول الاشتباك القتالى على وشك تحقيق نصر عسكرى للبندقية الوطنية الرسمية اللبنانية، كان هناك من يريد سحب المشهد برمته من «فعل حقيقى» فى الحرب على الإرهاب، إلى ظلام منطق ومناطق الصفقات، التى يكون السمسار فيها عادة هو السيد؛ وفرض الارتباك على البندقية ضمانة لما هو مقبل على الساحة اللبنانية مستقبلاً. لذلك كان قطع الطريق هدفاً رئيسياً فى حد ذاته، استلزم غلق غرفة العمليات العسكرية واستبدالها بخطوط الهواتف المربوطة بالأقمار الاصطناعية، حيث دبت الحياة فى تلك الأخيرة لتربط ما بين الضاحية الجنوبية ودير الزور السورية والعاصمة دمشق، لضمانة خروج الصفقة إلى النور سريعاً قبيل إمساك العسكريين اللبنانيين بزمام المشهد.

الأضواء التى ضربت أعين الجميع أنه ما بين عشية وضحاها ارتبكت المعادلات بشدة، فهناك ضمانة لخروج (308 مسلحين) من تنظيم داعش رفقة (331 مدنياً) و(26 مصاباً) من منطقة الجرود اللبنانية، مستقلين «باصات مكيفة» وفرها الجيش السورى، وقامت قوات تابعة للأخير بتأمين نقلهم إلى محافظة «دير الزور» السورية، وتحديداً إلى مدينة «البوكمال» الحدودية مع الجانب العراقى؛ مقابل أن يكشف التنظيم الإرهابى عن مصير العسكريين اللبنانيين، ويقوم بتسليم رفات الشهداء الذين قضوا نحبهم سابقاً فى تلك المنطقة. وبالرغم من إعلان اللواء عباس إبراهيم، مدير الأمن العام اللبنانى، أن عملية استخراج جثامين جنود الجيش اللبنانى قد تمت بعد إرشاد عناصر داعش المقبوض عليهم عن أماكن دفنهم، وأن العدد الذى ظن أنه (6 جنود) سيرتفع إلى (8 شهداء عسكريين)؛ نافياً أن الجيش اللبنانى قد تفاوض بشأن استردادهم. هذا كان أمام أسر هؤلاء الشهداء بساحة «رياض الصلح»، بينما كان حديث الصفقة يزكم الأنوف ويحتل كل شاشات التلفزة الإخبارية.

وهو ما لزم حينها ترديد تساؤل عن تفاصيل خفية للصفقة؛ طالما أن الجثامين بحوزة الجيش والأمن اللبنانى. بل امتدت الأسئلة لتشمل جوانب أكثر اتساعاً، فهل هناك صفقة بالفعل فيها طرفا مقايضة وطلبات متبادلة، أم أن «حزب الله» لم يقم بشىء سوى إنقاذ عناصر داعش من قبضة وقذائف الجيش اللبنانى؟ وهو ما أكده لاحقاً مشهد «الباصات» والتنسيق مع الجيش السورى. فثمة مشهد منطقى ظل فى مخيلة الجميع، أن يقوم الجيش اللبنانى بالفتك بعناصر داعش، فى إطار استكمال تحطيم التنظيم لضمان عدم عودته لتهديد تلك المنطقة الحدودية، أو حتى على خلفية انتقامية وهى مبررة؛ بالنظر لما اقترفه التنظيم من خطف وقتل للعسكريين وغيرهم من اللبنانيين.

ولأن المنطق لا مكان له على الساحة السورية، فقد بدا السؤال بعدما عبرت قافلة داعش الأراضى السورية، عن السبب الذى جعل الجيش السورى هو الآخر لا يقوم بتدمير عناصر داعش، وهم تحت يديه، بدلاً من توصيلهم بسلام إلى البوكمال؟ بدا هذا بالطبع طرحاً ساذجاً، فالمئات من المشاهد المثيلة لهذا تمت على الأراضى السورية، كُشف عن بعضها وحار البعض فى تفسير ما خفى منها. وظلت تفسيرات وتحليلات حوارى النظام السورى و«حزب الله»، هى وحدها القادرة على اصطناع تخريجات «بائسة» للعديد من تلك الألغاز، التى كشف عنها الغموض بعد مرور 6 سنوات كاملة فى غمار المأساة. فلم تشهد ساحة سورية واحدة حرباً طرفاها «داعش» و«حزب الله»، ولا بين النظام السورى و«داعش» وجهاً لوجه، فالأخير لم يتلقّ الهزائم سوى على أيدى الوحدات الكردية المتنوعة فى الشمال السورى، وما سوى ذلك لم تشهد مسارح العمليات سوى عمليات تضييق عليه من الخارج، فى محاولة لاسترداد النظام لمناطق قد يسمح له باستردادها، وقد لا يسمح فى أغلب الحالات.

حتى بالعودة إلى التواريخ المبكرة، حين سُمح لـ«داعش» بالسيطرة على (3 محافظات) سورية كنا بإزاء مشهد مماثل لما حدث فى الموصل العراقية، وقت أن أصدر «نورى المالكى» تعليمات غامضة لقوات الجيش العراقى بمغادرة (3 محافظات) عراقية، ليقوم داعش بالسيطرة عليها من دون قتال حقيقى، وهو نفسه ما حدث بسوريا بمرجعية أرشيف عمليات عامى 2011 و2012. فمنذ هذا التاريخ والنظام وحزب الله والميليشيات الإيرانية التى تسانده وروسيا لاحقاً، عملياتهم جميعها مسجلة ضد «جبهة النصرة» و«الجيش الحر» وتوابعهم، والقليل من تنظيمات أعلنت ولاءها لـ«داعش» لكنها ليست قوة التنظيم الرئيسية.

على جانب مقابل لم يخُض «داعش» معارك حقيقية، ضد أى من تلك الأطراف السالف ذكرها «النظام وحلفائه» باعتبارهم أعداءه الافتراضيين، لذلك كانت مشاهد التلاقى السريع مع «حزب الله» على الشريط الحدودى امتداداً لمواقف مماثلة، ظل كلاهما يهرع فيها عادة لنجدة حليفه الاستراتيجى، حيث تضمهما مصالح وتوازنات وتقاسم نفوذ غير قابل للاهتزاز. فـ«داعش» وُلد ليبقى، ولم يشهد فصول تمكينه إلا بمساعدات سخية من أيادى هذا المحور، وتدمير التنظيم يعنى تلقائياً تحطيم مشروع المحور والكيانات المنخرطة فيه. فى النهاية التنظيم ذكى ويعلم كيف لا يتقاطع مع مصالح حلفائه، فلا يخلط لهم الأوراق بأى صورة، حتى وإن كان المطلوب منه مغادرة منطقة لبنانية ظل يسيطر عليها منذ 2014م، ليتم استثمار ذلك بالداخل اللبنانى لصالح هذا المحور المأزوم هو الآخر، كحال التنظيم اليوم تماماً، حيث ضاقت عليه الأضواء بما رحبت.