ثعابين الحدائق الخلفية

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

خيط رفيع يفصل بين الإيمان بحرية المعتقد وأهمية التعددية وروعة وجمال المجتمعات متعددة الجنسيات والإثنيات والأعراق، وبين غضّ الطرف عن سوء استخدام الحرية وشيزوفرينيا تبنِّى مبدأ التعددية وفى الوقت نفسه اعتناق مبدأ الفوقية.

وفى كل مرة أزور بريطانيا، على مدى العقد الأخير، أشاهد وأتابع مظاهر هذه الفروق الواضحة وضوح الشمس. عرفت بريطانيا سنوات طويلة فى ثمانينات وتسعينات القرن الماضى باعتبارها جنّة الاختلاف دون خلاف، وعبقرية قبول الآخر بذراعين؛ الأولى ذراع الوعى الثقافى واعتبار الاختلاف مصدراً كامناً للجمال، والأخرى ذراع قانون صارم يحمى ويدافع عن ويضمن حقوق من يتعرض لانتهاك عرقى أو عنصرى.

صحيح أن العنصرية تظل كامنة لدى الجنس البشرى (لاحظ مثلاً تعليقاتنا فى مصر على أصحاب وصاحبات البشرة السوداء)، والشعور بالفوقية يظل رابضاً فى نفوس البلايين (تابع ما يؤمن به أصحاب ديانات عدة بأنهم وحدهم الذاهبون إلى الجنة لمجرد أنهم وُلدوا لآباء ينتمون لهذا الدين). لكن تظل جهود التصحيح التوعوى وأدوات المراقبة والمراجعة القانونية والتنفيذية كفيلة بضمان الحماية والرعاية.

بريطانيا، التى عرفتها على مدى عقود، تعنى احترام التعددية الثقافية، ودمج الأقليات العرقية والدينية دون محو لجذورها الثقافية أو الدينية، واعتناق قيم احترام الآخر وقبوله. لكن الخيط الرفيع يفصل بين احترام الاختلاف من جهة، واعتبار جهود التطرف والدعوة إلى العنف والترويج للفوقية الدينية وغرس قيم رفض الآخر حرية معتقد!

وما حدث ويحدث فى بريطانيا من حوادث وأحداث متفرقة يسلط الضوء على هذا الخيط الرفيع الجارى انتهاكه، مثل حكاية الطفلة البريطانية المسيحية ذات الأعوام الخمسة التى تم إيداعها عن طريق مجلس بلدية «تاور هاملتس» لدى أسرة مسلمة لترعاها لظروف اجتماعية وأسرية. ووردت تقارير سرية للمجلس بأن السيدة المسلمة التى ترعى الطفلة ترتدى النقاب، وأنها خلعت الصليب الذى كانت ترتديه الصغيرة فى سلسلة حول رقبتها واتخذت إجراءات لبدء تعليمها اللغة العربية، وهو ما استوجب رفع الأمر للقضاء. وقبل أيام حكم القاضى بأن مصلحة الطفلة تستوجب السماح لها بالعيش مع أحد أفراد أسرتها بحيث يتمكن من تلبية متطلباتها «الإثنية والثقافية والدينية».

العجيب والغريب والمريب أن أصواتاً إسلامية عدة أعلنت تنديدها وشجبها لهذا القرار العنصرى الذى لم يحترم التعددية والذى عكس تخوفاً وتشككاً حول مستقبل الطفلة المسيحية «لمجرد أن السيدة التى ترعاها ترتدى النقاب وخلعت صليبها وبدأت تستعد لتعليمها العربية»! (وقبل أن تعترض عزيزى القارئ رجاء تصور الموقف معكوساً، حيث طفلة مسلمة تم إيداعها لدى أسرة مسيحية نزعت مصحفها وبدأت تتخذ خطوات تجريدها من ثقافتها وأصولها الإسلامية)، وللعلم والإحاطة أيضاً: القاضية التى أصدرت الحكم مسلمة.

إلى هنا يبدو الموضوع منطقياً إلى حد ما، لا سيما أن نسبة تركز السكان المسلمين تُعد الأعلى فى منطقة «تاور هاملتس» فى لندن. هذه المنطقة شهدت خلال السنوات القليلة الماضية حوادث تراوحت بين مجموعات من الشباب المسلمين تعلن الحى «منطقة خاضعة لقوانين الشريعة الإسلامية»، ولافتات تم تعليقها فى متنزه «بارتلت» تقول: «لا تصطحب كلبك للتمشية هنا. المسلمون لا يحبون الكلاب. هذه منطقة إسلامية الآن»، والتحرش اللفظى بسيدات وفتيات يرتدين «ملابس غير لائقة» أو «لا تناسب الأجواء الإسلامية»، وغيرها.

وتكتمل الصورة بإمام مصنَّف فى بريطانيا باعتباره «متشدداً» تارة و«متطرفاً» تارة و«مروجاً للعنف» مرة وداعياً إلى المزيد من انخراط البريطانيين المسلمين فى رعاية الأطفال الباحثين عن بيوت بديلة، وهو ضالع فى حكاية الطفلة المسيحية. شاكيل بيج، أحد أئمة المسجد التابع لـ«مركز لويشام الإسلامى» (منطقة لويشام فى جنوب لندن فيها تجمعات مسلمة ويهودية كبيرة)، عقد ورشة عمل قبل أسابيع لتشجيع وتحفيز الأسر البريطانية المسلمة على المشاركة فى رعاية الأطفال الذين يتم إيداعهم فى بيوت بديلة لأسباب اجتماعية وأسرية تحول دون بقائهم فى بيوتهم.

هذه الدعوة نظر إليها البعض باعتبارها جهداً محموداً نحو انخراط المسلمين الذين يرى البعض أنهم حولوا مناطق عدة فى بريطانيا إلى جيتو مغلق على أنفسهم وأنهم الأقل انخراطاً واندماجاً فى المجتمع، ورأى البعض الآخر أنها قفزة من قبَل متطرفين لجذب الأطفال من ديانات أخرى إلى اعتناق الإسلام، باعتبار ذلك نصرة للدين ونصراً مبيناً.

وهنا يظهر الخيط الرفيع مجدداً بين اعتناق التعددية وإساءة استخدامها. جميل أن يقوم مجتمع ما على التعددية، لكن الأجمل أن يؤمن الجميع قلباً وقالباً بها، لا أن ينتفع البعض بها لحمايته باعتباره أقلية، ثم يسىء استخدامها لتخدم مصالحه «الدعوية». ومثلما اعتبر البعض فى دول الغرب الديمقراطى المتقدم جماعة الإخوان المسلمين جماعة مسالمة تعتنق أفكاراً سلمية وتنتهج مبادئ تدعو إلى الخير والمحبة والسلام والوئام وأتى منها «أول رئيس مدنى منتخب»، ولم يرَ فكر الجماعة وغسل أدمغة مريديها واعتبار المسلمين من غير الإخوان مسلمين درجة ثانية إلخ، فهو كثيراً ما يعتبر دعاة التطرف ومعتنقى المغالاة ومريدى التعصب مجرد أشخاص يمارسون حقهم فى التعبير!

وقد نتج عن هؤلاء الذين «يمارسون حقهم فى التعبير» موجات من الشباب البريطانيين والألمان والفرنسيين والنمساويين والبلجيكيين وغيرهم تنضم لداعش بغرض «الجهاد»، وبقية الحكاية معروفة. لكن يبقى تطور الحكاية ملقياً بتبعات مفزعة، ليس فقط على دول الشرق الأوسط الرازحة تحت تهديد الدواعش، ولكن فى عقر ديار دول أصبح فيها الخط الفاصل بين التعددية وإساءة استخدامها ضبابياً بامتياز.

يُذكر أن الإمام شاكيل بيج خسر فى أواخر العام الماضى قضية تشهير رفعها ضد هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى». وكان برنامج «سياسة يوم الأحد» الأسبوعى قد ذكر فى عام 2013 أن الإمام قال إن «الجهاد هو أعظم الأعمال» وإنه يروج لأفكار العنف والتطرف ورفض غير المسلمين. وجاء فى حكم المحكمة التى رفضت الدعوى أن الإمام «يروج ويشجع بشكل قاطع انتهاج العنف لنصرة الإسلام»، وأنه «يخبئ أفكار التطرف والعنف وراء عباءة من الاحترام والمصداقية». يشار أيضاً إلى أن الإمام ذاته ضالع فى أنشطة تهدف إلى التقارب والتواصل بين اليهود والمسلمين!

ويحضرنى هنا قول مأثور قالته السيدة هيلارى كلينتون وقت كانت وزيرة خارجية موجهة كلامها لباكستان للتوقف عن «توفير ملاجئ آمنة للمتشددين المسلحين» يقول نصه: «لا يمكنك أن تربى ثعباناً فى حديقتك الخلفية وتتوقع منه أن يعض جيرانك فقط». ما لم تذكره السيدة كلينتون وقتها أن الثعابين تحمل جنسيات مختلفة، وأن الحدائق الخلفية للبيوت موجودة فى دول العالم دون استثناء!