رسائل الأحزان

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

كنت أراجع لابنتى منهج الأدب.. ولما وصلت إلى الباب الخاص بالنثر، أوضحت لها أن الرسالة فيما مضى كانت تعتبر أدباً راقياً كالشعر ومختلف فنون النثر من خطابة وحكم وأمثال ومواعظ وأقوال مأثورة.. استشهدت بالرسائل المتبادلة بين «مى زيادة» وأدباء عصرها فى مصر ولبنان وأدباء المهجر فى أمريكا.. ونذكر من هؤلاء الكبار «جبران خليل جبران» و«أمين الريحانى»، وفى مصر «عباس محمود العقاد»، و«لطفى السيد»، و«أنطون الجميل»، و«مصطفى صادق الرافعى»، وهذه الرسائل تمثل شكلاً أدبياً جديراً بأن يدرس، ولكن الذين يضعون مناهج التعليم عندنا من مفتشى وزارة التربية والتعليم.. لا يعرفون «مى زيادة» وربما يخلطون بينها وبين «مى عزالدين»، كما لا يعرفون «جبران»، ولا «سلامة موسى»، ولا «الشيخ محمد عبده»، ولا «إحسان عبدالقدوس»، ولا «نزار قبانى»، ولا «أمل دنقل»، وكنت، وما زلت، كلما جاء إلى وزارة التربية والتعليم وزير جديد.. أناشده أن يضع مناهج اللغة العربية للسنوات الدراسية المختلفة الأدباء والشعراء والمفكرون والنقاد، دون جدوى.. ولهذا حديث آخر.. المهم أننى قصصت على ابنتى قصة الحب الرومانسى الغريب التى ربطت «مصطفى صادق الرافعى» بـ«مى زيادة» من طرف واحد هو نفسه العاطفية الواهمة.. والتى لا علاقة لها هى به من قريب أو من بعيد، ومن ثم فكانت رسائله -كما يرى «محمد سعيد العريان»- يخاطب فيها نفسه.. وهو يزعم أنها رسائل صديق بعث بها إليه.. فتراه يوجه الخطاب فيها إلى ذلك الصديق المجهول.. يستعينه على السلوان بالبث والشكوى.. ثم يصطنع على لسان ذلك الصديق بعضاً من رسائل الرافعى ورسائله.. يتحدث بها إلى نفسه عن حكاية حبه وآماله وما صار إليه.. أو فلنقل إن «الرافعى» فى هذه الرسائل جعل شيئاً مكان شىء، فأنشأ هذه الرسائل لصاحبته.. ثم نشرها كتاباً نقرؤه، وهو «رسائل الأحزان» لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه، أو ما يظن هو أنها لم تكن تعلمه فهى رسائله إليها على أسلوب من كبرياء الحب تشفى ذات نفسه ولا تنال من كبريائه.. يقول فى واحدة من تلك الرسائل المهمة المنشورة فى كتابه «رسائل الأحزان»: «رأيتها مرة فى مرآتها.. وقد كانت قد وقفت إليها تساوى خصلة من شعرها الأسود الفاحم المتدلى عناقيد.. ولم يكن بها ذلك كما علمت بعد.. وإنما أرادت أن تطيل نظرها فى.. من حيث لا أستطيع أن أقول إنها هى التى تنظر.. بأن ذلك الذى كان خيالها.. فلما انتصبت إلى المرآة خُيل إلىَّ أنى أرى ملكاً من الملائكة قد تمثل فى هيئتها وأقبل يمشى فى سحابة قائمة من الضوء وأن يد الله فى لمح النظرة قد رسمت هذا الجمال على تلك الصحيفة يتموج فى ألوانه الزاهية أو هى التى أرادت أن تبعث إلى بكتاب يحتويها كلها ولا يكون فى يدى منه شىء، فأرتنى مرآتها.. إلا فأعلم أن هذه التى فى المرآة وهذه التى هى قلبى ثلاثة فى واحدة لو هممت لتختبئ فى قلبى فكأنما كنت أعشق مخلوقة من مخلوقات الأحلام لا تدرك بجميع أجزائها.. وإذا أدركت بقيت وهماً لا تناله يد.. وهى كالملائكة قادرة على التشكل.. إلا أنها تتشكل فى الذهن.. فبينما تراها شخصاً جميلاً.. إذا هى فكرة جميلة تنعطف عليها حواشى النفس.. وبذلك تستطيع أن تشعرنى بأنها فى داخلى وإن كان بيننا من الهجر بعد المشرقين.. وأن تنزل بالسلام على قلبى.. وإن كانت هى نفسها الحرب.. وأن تجعلنى أحبها وإن كان بغضها يأكل من جوانحى».

المثير أن حالة الوله التى وضعها فى رسالته الثالثة التى سطرها على هيئة قصيدة بعنوان «حيلة مرآتها» ليست سوى تهاويم محلقة فى خيالات تشبه الضلالات البصرية الخادعة التى طافت بعقل توهم أنها هامت به حباً و«رنت بنظراتها إليه تطيلها، ورنا بنظراته لها فأطالها» بينما الحقيقة أن ما تصوره لا وجود له فى الواقع.. فلم يتعلق قلب «مى» سوى بجبران خليل جبران..

قلت لابنتى: إن الرسائل المتبادلة بين «جبران خليل جبران» و«مى زيادة» بما تحتوى عليه من مساجلات ومناقشات فكرية تعتبر ثروة أدبية وتراثاً نفيساً وأن «مى» و«جبران» قد تعارفا عبر الرسائل وتحابا.. سعدا بحبهما وشقيا.. كانت المسافة الفاصلة بين القاهرة حيث تقيم و«نيويورك» حيث يقيم هو.. هى التى جعلت ذلك الحب أقرب إلى الحب العذرى.. الذى لا يتحقق إلا فى الروح.. المهم أنهما أثرا المكتبة العربية بصفحات رائعة من «فن المراسلة» والقليل الذى لدينا من هذه الرسائل يعتبر نموذجاً متميزاً من هذا الفن الجميل.. وبالتالى فإن آثارهما الأدبية ظلت خالدة وذكراهما ظلت حية فى الضمائر جيلاً بعد جيل لما قدما للنهضة والفكر من كتابات كانت عصارة فكرين.. وتوقد روحين.. وذوب قلبين..

وقد مات جبران، وفى قلبه الصامت حبها، وماتت هى بعده بعشر سنوات وقلبها غير ممتلئ بأحد غيره.. وكانت علاقتهما من خلال الرسائل قد استمرت عشرين عاماً دون أن يلتقيا ولو مرة واحدة.