الهاوية التى يسير إليها الشمال السورى

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

لم يكن أحد يتصور أن تصل المأساة السورية إلى المحطة التى يذكر فيها هزيمة تنظيم داعش، باعتباره سيخلق «فراغاً استراتيجياً». لكن سخرية الأحداث المريرة، أوصلتنا بتدافعها الجنونى المتشابك إلى ذلك، فالكثير من التقارير الاستخباراتية وتقديرات الموقف التى سطرت مؤخراً، بمعرفة الأطراف العالقة فى ما سُمّى اختصاراً «معركة الرقة»، صارت تستخدم اصطلاح «الفراغ» كاختصار آخر، يمكنه الدلالة أو الإجابة عن تعقيد أسئلة الشمال والشرق السورى فى مرحلة ما بعد «داعش». والأبرز منها بطبيعة الحال هو من سيعود أو سيدخل تلك المنطقة بعد انقشاع غبار المعارك.

فى طريق السعى إلى سد هذا الفراغ أو ترميمه قدر الإمكان، يتحضّر الشمال السورى لتغييرات كبرى عقب الانتهاء من معركة الرقة، وطرد تنظيم داعش منها، فقد خسر «التنظيم» منذ بدء المعارك المباشرة ضده فى يونيو 2017، والمستمرة حتى الآن، ما لا يقل عن 50% من مساحة أراضيه فى الشمال والشرق السورى، أمام الهجوم الكبير الذى تعرّض له من (قوات سوريا الديمقراطية) المدعومة أمريكياً، والتى يشكل المقاتلون الأكراد النسبة الأكبر منها. أولى مفاجآت هذه التغييرات، أنه ساد توافق شبه نهائى على تشكيل «جيش فيدرالى» فى الشمال السورى، كأحد التخريجات التى رشحت عن أحداث معركة الرقة. أورد الباحث السورى فى الشئون الكردية «بدر ملا رشيد» البعض من تفصيلات ما يحدث على الأرض بخصوص هذا الشأن، حيث حدّد 3 مسارات يتم العمل عليها الآن داخل إطار تلك الكيانات، تقوم فى البداية على تنظيم صفوفها، يعقبها هيكلتها العسكرية، ثم دمجها جميعاً فى جسد عسكرى واحد.

المسارات الثلاثة تركز على القوتين الرئيسيتين؛ أولاً «وحدات حماية الشعب الكردية YPG»، وهى الآن تعيد هيكلة جسدها العسكرى، والانتقال من حالة الفصائل الصغيرة إلى مرحلة تشكيل الأفواج الكبيرة، وقد جرى تشكيل 15 فوجاً حتى الآن. وما كانت تفتقده هذه القوات هو وجود جسم عسكرى معلن فيه التراتبية العسكرية، فقد ظلت تعمل وفق مجلس قيادة يتبع النظام الداخلى الخاص بها، لم يتم إعلان أى تفاصيل تتعلق به بغرض إخفاء حجم الوحدات وقادتها الفعليين. إذ إن قيادات «وحدات الحماية» إما أكراد سوريون كانوا ضمن حزب العمال الكردستانى، وعادوا إلى سوريا مع انطلاق الثورة؛ أو من أكراد تركيا. وهذا ورد فى تقرير «مجموعة الأزمات» الأمريكى الأخير، الذى تناول موضوع قيادة عناصر من «حزب العمال» لأكثر المفاصل أهمية فى المناطق الواقعة تحت الإدارة الذاتية. لذلك تأتى خطوة بناء جسد عسكرى واضح المعالم من قيادة وتسلسل عسكرى، بتوجيه ودعم من الولايات المتحدة، لتحويلها إلى كيان يمكن أن يشارك فى الحل السياسى للملف السورى، أو لدمجها مع قوات «الجيش الفيدرالى».

ثانياً «قوات سوريا الديمقراطية»، وهى تمثل نسقاً أكثر انفتاحاً، لكونها مؤلفة، فضلاً عن الأكراد من تحالف فصائل عربية، الأولى عشائرية مناطقية كـ«قوات الصناديد»، والأخرى قوات «مسيحية» يتمحور هدفها الرئيسى فى حماية مناطق وجود المسيحيين بالحسكة، لكنها تشارك الآن فى معركة الرقة. حديثاً بدأت القيادة سياسة جديدة لضم المقاتلين إلى صفوفها؛ إذ أصبحت تتم بشكل مباشر إلى جسد «سوريا الديمقراطية»، دون أن يُحسبوا على أى فصيل من الفصائل المشكلة لها، بغرض القضاء على حالة الفصائلية الموجودة. وخلال الأشهر القليلة الماضية؛ انضم «6 آلاف مقاتل» مباشرة إلى القوات، وبعضهم تم ضمه «قسراً» من العشائر المحلية، وآخرون مقابل الحصول على مقابل مادى تراوح بين 100 و150 دولاراً أسبوعياً.

حتى الآن، لم يتم الاتفاق النهائى على مسمى «التشكيل العسكرى الجديد»، لكن الذى سيكون أكثر أهمية لأخذه فى الاعتبار، أن تكون التسمية بعيدة تماماً عن الدلالات العرقية أو الطائفية، وألا تكون الأضواء مسلطة على مكونه الكردى الرئيسى. لذلك تم تداول المسميات ذات المرجعية الجغرافية، التى تشير بطرف خفى إلى مستقبل تلك المنطقة؛ مثل «قوات فيدرالية الشمال» أو «الجيش الوطنى الفيدرالى» كما تُحبّذ الولايات المتحدة. ويفسر ذلك خشية القوات المندمجة أن تشكل تسميتها حساسية، خصوصاً فى المناطق العربية الموجودة فيها، أو التى من المحتمل أن تدخلها عسكرياً فى المرحلة المقبلة كـ«دير الزور». والمرجّح أن تتشكل «القيادة» فى المرحلة الأولى من «مجلس عسكرى» مؤلف من قادة عسكريين لـ«وحدات حماية الشعب، وقوات سوريا الديمقراطية». ويُخطط للقوات الفيدرالية المندمجة أن تنتشر مقابل حدود كردستان العراق فى أقصى الشمال الشرقى لسوريا، وصولاً إلى «منبج» فى ريف حلب الشرقى بموازاة الحدود التركية - السورية.

لا يخفى على أحد من الأطراف الرئيسية على الساحة السورية، أن هذا المخطط يحظى بدعم أمريكى، فهى بدأت خطوات الوصول إلى محطته منذ وضعت أقدامها على الأرض السورية. ولم تكن المعارك التى خاضتها مكونات هذا الجسد العسكرى الجديد، سوى التمرينات العملية والخطوات التى فتحت المجال للنفوذ الأمريكى المباشر الآن على ما يقارب 40 ألف كيلومتر كبداية. فضلاً عن إنشائها الآن «10 قواعد عسكرية» ترفع العلم الأمريكى، البعض منها سيلعب دوراً محورياً فى بث الحياة داخل الجسد العسكرى الفيدرالى، الذى ستكون أولى مهامه فى ما بعد «داعش»، السيطرة على «الحوض المائى» بشمال سوريا، حتى لا يقع بيد نظام الأسد.

هناك الكثير من الإشارات التى تدل على علم وموافقة روسيا على هذا المخطط، نظير السماح لها بإدارة وتنظيف الوسط والغرب السورى، فى ما يُطلق عليه عملية «مناطق خفض التوتر» دون الاقتراب من المناطق التى تم ذكرها. وستتشارك على الأرجح القوتان فى تبادل للأدوار؛ للجم وحصار أى رفض أو مشاغبات للنظام السورى أو تركيا أو إيران، كى تتم صناعة هذا الكيان العسكرى «الهائل» فى هدوء، تأميناً لمثل تلك التمدّدات، وبغية ملء «الفراغ الاستراتيجى»، الذى بدأنا منه، وها نحن نعود إليه صاغرين!