القدس قضية ومدينة.. لا ولن تُنسى

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

أُعلن فى القدس المحتلة، ليل الجمعة الماضى، أن ثلاثة مستوطنين إسرائيليين لقوا مصرعهم، وأصيبت مستوطنة رابعة بجراح خطيرة، فى عملية طعن نفذها شاب فلسطينى فى مستعمرة «حلميش» شمالى غرب مدينة رام الله وسط الضفة الغربية. وذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية أن منفذ العملية أصيب بجراح متوسطة إلى خطيرة، وجرى نقله إلى مستشفى فى «بتاح تكفا» بالداخل المحتل.

التغطية الإخبارية الإسرائيلية أشارت إلى أن الجيش فرض طوقاً مشدداً على المستوطنة وحظر على سكانها الخروج منها حتى إشعار آخر. وفى التفاصيل فقد نجح «عمر العبد»، 20 عاماً، من بلدة كوبر شمال رام الله، فى التسلل إلى أحد منازل المستوطنة، حيث قام بتنفيذ عمليته. جرى استجواب المهاجم، واعترف بشرائه سكيناً خلال الأيام الأخيرة، حيث أراد الانتقام للأقصى. وعلى غير عادته، نشر الناطق بلسان الجيش صورة لمكان العملية والدماء تملأ المكان وجرى توزيعها على وكالات الأنباء العالمية تحت عنوان «مخرب يذبح عائلة يهودية وهى تتناول وجبة السبت».

أما عن الجمعة التى سبقت هذا الحادث بيوم، فقد استشهد ثلاثة فلسطينيين فى القدس المحتلة مع انتهاء صلاة الجمعة، أحدهم برصاص مستوطن، والآخران برصاص جيش الاحتلال فى بلدتى «الطور، وأبوديس»، فيما أصيب عشرات الفلسطينيين فى القدس وأنحاء الضفة الغربية فى تعبير عن الغضب، على إبقاء البوابات الإلكترونية عند مداخل المسجد الأقصى المبارك، فضلاً عن تقييد إقامة الصلاة فيه. قام سكان القدس بتهريب جثامين الشهداء من على أسوار المشافى لدفنها قبل قيام سلطات الاحتلال باحتجازها. ومنذ ساعات الصباح، اندلعت مواجهات بين آلاف الفلسطينيين وجيش الاحتلال فى أنحاء مختلفة من الضفة، منها عند «حاجز قلنديا» فى الخليل، وعند «قبر راحيل» ببيت لحم، وقرى غرب رام الله. وفيها رشق الفلسطينيون جيش الاحتلال بالحجارة، ليرد الأخير بوابل من قنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية. تجمّع عشرات آلاف المصلين فى مواقع مختلفة من البلدة القديمة، وأقاموا صلاة الجمعة فى الشوارع والأزقة والساحات فى أقرب نقطة من المسجد تمكنوا من الوصول إليها. وصلى نحو عشرة آلاف فلسطينى فى «شارع صلاح الدين» خارج البلدة القديمة، قبل أن تقع مواجهات مع قوات الاحتلال. كما نجح نحو عشرة آلاف مقدسى فى الوصول إلى «باب الأسباط»، أحد أبواب المسجد، على الرغم من وجود أكثر من خمسة حواجز عسكرية فى الطريق إليه، وأقاموا الصلاة فى الشوارع والساحات والأزقة.

الشرطة الإسرائيلية استدعت أكثر من ثلاثة آلاف من عناصرها، لتواجه عشرات الآلاف من المصلين من القدس والبلدات العربية داخل إسرائيل؛ الذين توجهوا نحو المسجد لإقامة الصلاة خارجه. فيما دفع جيش الاحتلال فى أنحاء الضفة بكتيبتى دعم أخريين، وواجه احتجاجات مدن الضفة بالرصاص الحى وقنابل الغاز والصوت. وحولت إسرائيل البلدة القديمة منذ منتصف ليل الجمعة إلى ثكنة عسكرية، للحد من عدد المتجهين إلى المسجد للصلاة. وأعلنت إغلاق محيط البلدة القديمة والمسجد الأقصى أمام المقدسيين، ونصبت الحواجز على مداخل القدس لتعترض طريق الحافلات والسيارات التى تقل المصلين من البلدات العربية فى «الجليل، والمثلث، والنقب». كما منعت كثيراً منهم من مواصلة طريقهم نحو القدس لأداء صلاة الجمعة نصرة للمسجد. وقضى المئات من المقدسيين وفلسطينيى الداخل الليلة قرب المسجد، قبل أن تغلق الشرطة الطريق المؤدية إليه، لتسجل المصادر الرسمية ذات الثقة أن جمعية «الهلال الأحمر الفلسطينى» قدمت خدماتها الإسعافية لنحو «450 مصاباً» خلال المواجهات التى شهدتها القدس المحتلة وبقية مدن الضفة الغربية. منها «110 إصابات» بالقدس، حيث كانت الإصابات كالآتى: «23 بالرصاص الحى»، و«147 بالرصاص المعدنى المغلف بالمطاط»، و«215 جراء استنشاق الغاز المسيل للدموع»، و«65 إصابة بكسور مختلفة» جراء التعرض للضرب المبرح من قبل قوات الاحتلال.

ما سبق يمكن اعتباره أسرع وأحدث ما أمكن كتابته عن أحداث يومين فى حياة مدينة القدس والمقدسيين، وكان من الممكن عدم الالتفات لذكره والاكتفاء بالتعليق عليه فى هذه الزاوية، لكنى وددت لو نقترب قليلاً من أحداث صارت غالبية الرأى العام العربى تعزف عن تداولها، فضلاً عن إسنادها إلى تأويلات تفرغها عمداً من مضمونها وتهوى بها إلى حضيض التجاهل، بالرغم مما تمثله قضية «القدس المحتلة» من رمزية لتعقيدات محنة الاحتلال الإسرائيلى للأرض، كما هى عنوان واسع لمعادلات الصراع الاستراتيجى ما بين دول الإقليم ودولة أقيمت وأُعلنت بغرض الاحتلال والاستيطان وأشياء أخرى.

فى منحنى مظلم من مشوار تلك القضية الرئيسية، قفز الإسلام السياسى لامتطائها بكل ما يملك من إصرار وضجيج خطابى وإعلامى، لتشهد بعده خروجاً سريعاً للمرجعية الوطنية وأرضية التحرر الشعبى. وهى زاوية رؤية يمكنها ببساطة أن تصوغ حالة العزوف الكبير التى نلحظها اليوم، بل ويمكن أيضاً أن تجابه بفلسفة للمغادرة والتناقض مع المدينة، مما استتبعه اتهامات متبادلة على لسان المقدسيين لغيرهم بالخذلان، ومن الآخرين لهم بأنهم أدوات يمكن تحريكهم عن بُعد لأغراض سياسية شتى. لكن تلك المعادلة ستظل فى احتياج لمواجهتها، فهى ليست قدراً مكتوباً، ولن تمثل سوى محطة فى مشوار المدينة «القضية»، فالإسلام السياسى كـ«مشروع» يبدو وقد سلك وجهة الانحسار، خاصة بعد انكشاف التصاقه بـ«الإرهاب المسلح». التهاوى الذى أصابه فى مصر ونماذجه المشوهة التى تحاول فى بلدان أخرى التماسك، نزع هالة كبيرة عنه وبقيت فقط الحرب ضد أذرع التطرف الإرهابية المسلحة. وهذا فيما يتعلق بالقدس والقضية الفلسطينية، مما يفسر انحياز الغرب لهذا المشروع القاتل للقضية، ويترجم سبب وقوف الاحتلال الإسرائيلى طوال الوقت وراء تعويم المكون الفلسطينى لهذا المشروع «الإسلام السياسى». فهو القادر بتهويمات أطروحاته وسلوكه أن يقدم لاحتلال المقدسات والأرض الخدمة الجليلة التى لا ينازعه فيها أحد.