أزمة "مسرح عبدالباقى"

طارق سعد

طارق سعد

كاتب صحفي

"تياترو مصر دى مصر تياترو.. وتعالى شوف رواياتك كتروا.. كفاية غم وحرقة دم عايزين نرجع ضحك زمان.. عايزين نفك شوية يا عم وآدى الجواب بان م العنوان".

كلمات بسيطة ومبهجة كانت عنوانا لفكرة غير تقليدية يغامر بها نجم كوميدى من طراز خاص وهو "أشرف عبدالباقى"، الذى قرر أن ينتقل إلى مرحلة جديدة وهى مرحلة "الأستاذ"، ليكون فرقة مسرحية باسمه تضم مجموعة موهوبة من ممثلين شباب غير معروفين يتحسسون بداية طريقهم، اختارهم بنفسه بعد بحث ومتابعة، ليحقق حلما برؤية فنية كافح ليخرجه للنور ما يزيد عن 5 سنوات، يتم رفضه من كل المنتجين وذلك لرغبتهم فى أن يكون أبطال الـ "تياترو" نجوما لهم اسمهم، فيسهل البيع والمكسب مضمون، وهى "لعبة السوق" التجارية المعروفة.

رفض "عبدالباقي" كل المغريات إيمانا منه بفكرته، حتى تحمست قناة الحياة للفكرة وقررت المغامرة معه، فبحساباتهم "أشرف" شريكا لهم والبيع باسمه، والممثلين جدد أجورهم ضعيفة والتكلفة إيجار مسرح وتصوير، وشاشة العرض شاشتهم، واختيار أهم وقت عرض لحجز الإعلانات بكثافة جعلها صفقة رابحة ومضمونة.

فكرة "أشرف" تقوم على محاكاة الـ "تياترو" الذى كان يقدم فى زمن بعيد وقت الاحتلال والملكية، حيث كان يقدم برنامجا ساهرا ويعرض اسكتشات ساخرة لها إسقاطات معينة، وترجمها "أشرف" أنه سيقدم "كباريه سياسى"، أى عروض ساخرة بها إسقاطات سياسية ومجتمعية، خاصة أنه بدأ تقديمها بعد ثورة 30 يونيو، مستغلا زخم الأحداث واشتياق الجمهور للضحك، فوعد جمهوره بضحكة صافية "نظيفة" من خلال عروض كوميدية "اسكتشية" تحمل مضمونا وهدفا، ليقدم وجبة خفيفة ومتكاملة بشكل جديد ومختلف تناسب العائلة، ويعيد بها الحياة للمسرح، ما جعل الجمهور يغامر أيضا بالمشاهدة.

"عبدالباقي" صاحب المبادئ قرر أن يغزل فكرته بمبادئه، وبالفعل قدم موسمين من "تياترو مصر" حققا نجاحا مدويا فاق كل التوقعات، حتى أنه حقق النجومية لأبطاله الشباب اللذين لم يتجرأوا أن يحلموا بها، فقام "أشرف" بإعطائهم غالبية مساحات العروض مكتفيا بدور "الأستاذ"، وظهور خاص ليؤكد لنا أنه يعمل وفق رؤية وهدف ويؤسس لشكل مسرحى جديد، ينطلق من خلاله جيل جديد من نجوم الكوميديا، ويعيد فكرة الفرقة المسرحية التى توقفت عند نجم كبير بحجم "محمد صبحى"، فقد تحقق الهدف وعادت الأسرة بكامل أعمارها إلى المسرح، والتفت وتجمعت حول الشاشة فى ترجمة للثقة التى صدَرها "عبدالباقي" للمشاهد، حتى أننا كنا نراه وهو يسيطر على شطحات فرقته أثناء العروض فى حال تخطيهم لمبادئه التى أسس عليها الفرقة، وذلك بسبب حماسهم الزائد ومحاولة إثبات أنفسهم، ليصبح "أشرف" بمسرحه رهان الأسرة الأول.

وتأتى الرياح دائما بما لا تشتهى السفن، فبعد الخلافات مع القناة المنتجة انتقل "أشرف" بفرقته مع منتج أكبر إلى قناة فضائية أخرى لتعرض مسرحه باسم "مسرح مصر"، فتزداد المكاسب وينتقل الجميع إلى شهرة أكبر ومستوى مادى آخر، فهى الانطلاقة الأكبر التى تتوافر لها كل سبل النجاح والراحة.. ولأن لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه، فقد بدأ "أشرف" فى فقد السيطرة على أعضاء فرقته تدريجيا، وبدأت الكوميديا تخرج من الإطار الـ "نظيف" الذى بُنيت عليه فكرة المسرح، وبدأت التجاوزات ثم الإيحاءات ثم السُباب "الشتائم" بشكل مستمر، ثم التطاول والسخرية من الأم والأب والثوابت والتى أصبحت "راكورا" فى معظم العروض، أى تتواجد بشكل ثابت وتدخل البيوت بكثافة، حتى انفك اللجام تماما لتكتمل بانخفاض مستوى العروض ومحتواها بشكل سريع ومثير للدهشة، حتى فرغت تماما من المحتوى وأصبحت مجرد "ساعة من التهريج الأجوف" بلا هدف أو مضمون، للدرجة التى تدفع الأبطال على المسرح للسخرية من سطحية ما يقدمونه، والأغرب والأدهى من ذلك هو تكرار عروض بشكل متطابق "بالكربون" من موسم لآخر، بنفس الفكرة ونفس الحوار تقريبا، لتشفق على ما تراه وأنت متعجب مما يحدث ومستوى الهزل الذى هبط إليه المسرح، فمن وثق فى "أشرف" ومبادئه ونُبل فكرته جلس يشاهد ويتابع ليستمتع "مش مدى خوانة"، فيأخذ الصدمة ويزيد حزنه بنهاية كل موسم، وتبدأ "اللمة الحلوة" التى صنعها "مسرح عبدالباقى" فى التفكك والانصراف التدريجى، ليقع "أشرف" فى أزمة حقيقة.

السبب الرئيسى فى أزمة "مسرح عبد الباقى" أنك كنت تلمح باستمرار وكأن هناك صراعا خفيا بين مبادئ "أشرف" التى أسس عليها فكرة مسرحه، وبين طاقات شباب تشعر أنها "ما صدقت وصلت"، فكان دائما يحاول تحجيمها حتى لا تخرج عن الإطار الذى رسمه من البداية.. ولكن مع زيادة النجاح وزيادة الشهرة والعائد على جميع المستويات، لم يستطع "أشرف" السيطرة، وانفجرت هذه الطاقات لتصيبه شظاياها، فكانت نتيجة هذا الصراع الحتمية أمر من اثنين، إما أن يفرض "أشرف" أسلوبه ورؤيته بإصراره أن يستكمل ما بدأه فى نفس الطريق، أو يفرض شباب فرقته أسلوبهم وثقافتهم التى رفضهما من البداية و"يركبوا" المسرح.

للأسف ما حدث هو أنهم "ركبوا المسرح" وكانت موجتهم عالية على "أشرف" الذى يبدو أنه أنهكته المواجهة، ما دفعه للاستسلام تدريجيا وترك الحبل على الغارب ليصولوا ويجولوا دون ضابط أو رابط، ولم لا والمكاسب تنهال من كل اتجاه، والاستمرار مضمون طالما الضحك "شغال ع الفاضى" ويترجم بعائد متنوع العملات، فأصبح العمل بلا ورق معتمدا على التوفيق فى الارتجال، حتى أن تتر العرض أصبحت أغنيته "قولوا عاااا"، كما فشلت محاولاته لتجديد دماء الفرقة وإخراج دفعات جديدة من الموهوبين تحت راية "الأستاذ"، ليتحول "أشرف" بإرادته من امتداد لجيل العمالقة والأساتذة إلى امتداد مسرحى لـ"السبكى".

أدعو "عبدالباقي" أن يستقطع من وقته يوما ينفرد فيه بنفسه ويشاهد مجموعات متتالية من عروض مسرحه، بدءًا من الموسم الأول حتى آخر عرض تم تصويره على المسرح، ويحكم.. هل هذا هو الحلم الذى تمنى تحقيقه وكافح وضحى من أجله؟ هل هذا ما تضمنه عقده مع جمهوره؟ هل هو راضٍ عن المستوى الذى وصل إليه مسرحه؟

الأهم.. هل يرى "مسرح عبدالباقى" فى قائمة شرف مسرح "الريحانى والمهندس وصبحى" أمام الأجيال القادمة؟ ربما يعى وقتها الأزمة الكبيرة التى وقع فيها، ويتفاجأ بأن طموح جمهوره له أكبر من طموحه هو شخصيا لنفسه.

"أشرف عبدالباقى" استطاع منذ سنوات طويلة فى مشواره أن يصنع لنفسه مكانا منفردا بين عائلات الجمهور، وجعل من اسمه مصدر ثقة وبهجة لديهم، كما وقَع على بياض مع جمهوره على عقد الاحترام المتبادل غير محدد المدة، وهو ما يصعب على آخرين الوصول إليه بسهولة، لذا فدائما ينتظر الجميع منه الأفضل والأجود ولا يقبل أى تراجع.

أثق تماما فى ذكاء "أشرف عبدالباقى" ونُبل رسالته التى يحملها، وأنه بمجرد التفاته لهذه الأزمة سيتوقف قليلا ويعيد حسابته وترتيب مسرحه من جديد بعد ترميم أعمدته، ليحافظ على ثقة وحب واحترام الجمهور، خصوصا أنه أصبح "المنتج الرسمى" لمسرحه وسيكتشف أن مكاسبه ستتضاعف ماديا وأدبيا.

فقط يدرك أن مرحلة "الأستاذ" مسئولياتها أكبر بكثير من مرحلة الفنان الكوميدى "أشرف عبدالباقى".