الكاريكاتير.. وشريعة الضحك

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

لماذا نضبت الضحكة وجفت الابتسامة وندرت النكتة.. وتباعدت الفرحة وشحت البهجة وتقلصت الأطروفة وعز زمن الفكاهة وصارت الكوميديا فى أزمة والملهاة فى محنة؟!.. لماذا أصبحنا شعباً جمهاً ممتعضاً عابساً متقلص الملامح كئيباً حاداً فظاً نكدياً لا يضحك «للرغيف الساخن» كما يصفونه فى التراث الشعبى؟! لماذا تحول إلى كائن نافد الصبر عكر المزاج يميل إلى الشحناء والبُغض والعدوان والتطرف..

يقول الكاتب الكبير «رجاء النقاش» عن «توفيق الحكيم» أنه لم يعرف فى أدبائنا أكثر منه حزناً وانطواءً على النفس، فقلبه ملىء بالأسئلة والشكوك.. وأعماله المسرحية والروائية يبللها حزن وعذاب نفسى عميق.. فهو دائماً يتساءل عن سر الحياة.. وسر المرأة.. وسر القلب البشرى.. وسر الزمن.. وهذه الأسئلة الحائرة الحزينة لا تجد عنده جواباً.. لكنه مع ذلك استطاع أن يسيطر على إحساسه بالحزن والمأساة فاستخدم الفكاهة فى كتاباته حتى يخفف من هذا الشعور الكئيب ويعبر عنه بطريقة راقية.. وفى روايته الرائعة «عودة الروح» يظهر عنصر الفكاهة دائماً كلما اشتدت حدة المأساة وتأزمت أحداث الرواية.. كأن «توفيق الحكيم» يقول بذلك: إن الحياة تصنع المأساة.. ولكن الفرح والابتسام هما الشيئان اللذان نحققهما نحن لنرش الماء على النار.. ونبنى أسواراً حول العاصفة التى فى داخلنا حتى لا ندع لها أن تدمرنا وتقضى علينا..

إن روح المرح المنبعثة من الحزن العميق تتوافر فى أشرف الناس وأكثرهم نبلاً وصفاءً واجتهاداً فى تجميل الحياة.. فالابتسامة هى الاكتشاف الذى توصلت إليه هذه النفوس العميقة التى شربت أكثر كؤوس الحزن مرارة.. وعرفت أن أعظم ما فى الحياة هو احتمال الحياة.. ولكى تحتمل الحياة لا بد لك أن تضحك.. هكذا تكلم «زرادشت».. على لسان الفيلسوف الكبير «نيتشة» فقال: «لقد أتيت بشريعة الضحك».. فيا أيها الإنسان الأعلى تعلم كيف تضحك.. لكن كيف يضحك القلب الحزين.. والإنسان المهدد بالموت والفناء ومحاصر بالمآسى والخطوب والألم والعذاب وتقلبات الزمن.. وغدر الأيام وألاعيب القدر؟!

المؤرخ القديم يصف المصريين بأنهم شعب يعشق الترهات.. لاذع القول.. لكن روحه مرحة.. وأعظم ما بقى إلى اليوم من آثار المصريين القدماء: المعابد والقبور.. مما يدل على أن روح الحزن كانت عميقة فى نفوسهم إلى حد بعيد.. لكن الغريب أنهم احتفظوا بروح النكتة والسخرية والمرح..

أرى أنه ليس هناك تفسير لهذا التناقض المتصل باجتماع الفرح العميق والحزن العميق فى نفس واحدة.. أو الازدواجية التى تجمع بين الكوميديا التى تُعنَى بالاحتفال والفرح والزهو بالحياة.. وبين الحزن الذى يضيق بمآسيها، سوى أن غريزة البقاء الإنسانية.. تدفعنا - لا شعورياً - إلى الاستعلاء على الموت ومحاولة الاستغناء الجميل.. وأيضاً الإيمان بأن الفترة الزمنية التى يعيشها الإنسان على الأرض ما بين الحياة والموت أجدى له أن يستغلها فى تحقيق آمال عريضة وطموحات عظيمة تجعل لهذه الحياة معنى وقيمة.. ولن يستطيع الإنسان إنجاز الأهداف الكبيرة بوجه عابس أو نفس حزينة.. ولعل الفيلسوف «ألبير كامى» عبّر عن ذلك فى نهاية كتابه المهم «المتمرد» بتأكيده أن هذه هى الأرض السعيدة التى سنعيش ونموت عليها فينبغى أن نحيا عليها فى رحلة بحث عن السعادة.. كما أن الفنان التشكيلى الكبير «جورج البهجورى» عبّر فى جملة بليغة عن خلاصة تصوره مؤكداً: «أنا أرسم لأقاوم الموت»..

كما أننا يمكننا أن نناقش الأمر من زاوية أخرى مهمة.. وهى أن عنصر التناقض أو المفارقة هو أحد العناصر المهمة.. إن لم يكن أهمها فى تفجير الضحك فى أشكال الفنون المختلفة.. ومن ثم تأثيرها على المتلقى فى إشاعة جو من المرح والبهجة يعدل من أحواله المزاجية.. ولعل عبارة «عبدالله النديم»: التنكيت والتبكيت.. أى التهكم أو السخرية واللوم يعبران عن تلك الازدواجية أو هذا التناقض الذى يسعى إلى التغيير، هو بالقطع الهدف الأساسى والأسمى للدراما الكوميدية مثلاً..

فالأفلام والمسرحيات الكوميدية العظيمة الشأن هى التى تسعى من خلال وسائلها المختلفة إلى إحداث تغيير فى وعى المتلقى وتفكيره.. وتؤثر فى عقله ووجدانه بل ربما فى مصيره تأثيراً واضحاً.. والأمثلة على ذلك كثيرة فى المسرح من أول «موليير» حتى مسرح العبث.. وفى السينما من «شابلن».. بل من الفيلم القصير «رش الجناينى».. وهو أول فيلم سينمائى بدأت به السينما صناعتها فى العالم على يد الإخوة «لوميير» وحتى السينما العالمية المعاصرة..

وفن الكاريكاتير وهو أحد الفنون التى تنتمى إلى الكوميديا بأشكالها المختلفة الانتقادية وكوميديا النقد الاجتماعى والكوميديا السوداء التى تجمع بين الكوميديا والتراجيديا وكوميديا الكباريه السياسى.. يقول فى ذلك «د. على الراعى» فى كتابه «الكاريكاتير والأغانى والإذاعة»: تتقنه كوكبة من الفنانين الموهوبين الذين آمنوا دائماً أن الفن مهنة ورسالة وقضية.. وبعض رسوم فنان الكاريكاتير الكبير «حجازى» تحمل خاصيته طريقة تبدو بريئة من الخارج يقبل عليها القارئ وهو خالى الذهن من أى خطر تحمله ولكنه ما إن يبدأ فى التعامل معها حتى ينفجر المحتوى فى وجهه وهو محتوى أشبه بالعبوة الناسفة شديدة الفتك لا يبقى بعدها شىء من الهدف الذى وُجّه إليه..

والحقيقة أنه بالإضافة إلى ذلك فإن كاريكاتير «حجازى» يقوم على تلك المفارقة التى تحدثنا عنها.. التناقض بين السلوكين أو فعلين يحدثان نوعاً من الدهشة أو اللامعقولية فى المعنى أو الاتجاه أو المضمون أو العواطف كالحزن والسعادة.. مثال ذلك: رسم يمثل صحفياً يتصل بأحد المسئولين بالتليفون مردداً: «ألو.. من فضلك بدى أعرف رأيى إيه النهارده علشان أكتبه».. والتناقض هنا أنه يريد أن يعرف رأى المسئول لا رأيه هو.. والهدف لاذع ومرير يفجر الضحك والسخرية من الأوضاع السياسية لكنه أيضاً يفجر الحزن والسخط بسبب ما آلت إليه هذه الأوضاع..

كاريكاتير آخر يرسم فيه طفلين بائسين يجلسان بجوار صندوق قمامة على رصيف شارع ويرتديان ملابس بالية ممزقة وأحدهما يقول للآخر: «النهارده عيد الطفولة.. كل عام وإحنا مش بخير»..

والتناقض هنا هو حالتهما المزرية فى مناسبة احتفال فرح، بينما هما يعيشان فى بؤس وشقاء لا يدعو إلى الفرحة، بل إلى الحزن والإحساس بالتعاسة.. والتناقض هنا أيضاً قائم على الظلم الاجتماعى الواقع عليهما والمتمثل فى أن الفرح والسعادة يخصان أطفالاً آخرين فى إشارة إلى مجتمع يعانى من فوارق طبقية واضحة..

كاريكاتير ثالث لأطفال جالسين حول طبلية فى منزل فقير مع والدهم ووالدتهم والطبلية خالية من الطعام.. بينما راديو «ترانزيستور» موضوع عليها.. ينبعث منه تصريح من أحد المسئولين.. والأب ينصحهم قائلاً: «يا أولاد لما تسمعوا تصريحات المسئولين فكروا فى الوطن.. عيب تفكروا فى الأكل»..

والمفارقة هنا تتمثل أيضاً فى الظلم الاجتماعى الذى يتناقض مع شعارات مثل «ماتقولش إيه إدتنا مصر.. قول هندّى إيه لمصر»..

أما الإجابة عن السؤال الذى بدأنا به المقال: لماذا نضبت الضحكة وجفت الابتسامة وندرت.. فإن حجازى الرائع أجاب عنه بسلوكه الشخصى حينما توقف فجأة عن الإبداع.. وعاد إلى مسقط رأسه بـ«طنطا» نازحاً إلى القاهرة ليرسم بانوراما كاريكاتيرية للإنسان المصرى عبر مسيرة رائعة امتدت لقرابة خمسين عاماً من الإبداع المتفرد..

هذا الفنان العبقرى أدرك أن مفارقات الواقع المعاش الصارخة أصبحت تفوق فى هولها وغرابتها ولا معقوليتها وعبثها وتطرفها الجنونى مئات المرات تلك التى اعتصر فيها ذهنه واستدعى خياله واستحضر إلهامه وموهبته الفياضة فى رسمها وتجسيدها.