9 يونيو.. ليلة تنحي "عبدالناصر".. مؤسس المخابرات يحكم مصر 48 ساعة

كتب: مصطفى علي موسى

9 يونيو.. ليلة تنحي "عبدالناصر".. مؤسس المخابرات يحكم مصر 48 ساعة

9 يونيو.. ليلة تنحي "عبدالناصر".. مؤسس المخابرات يحكم مصر 48 ساعة

حُوصر مع "عبدالناصر" في الفالوجا بفلسطين، واستجابت لمطلبهم أم كلثوم وغنّت للمحاصَرين "غلبت أصالح في روحي".. ووقت أن قرر "ناصر" التنحي بعد نكسة 5 يونيو 1967، كان زكريا محيي الدين الاسم الأبرز الذي ستقع في حِجره كرة ملتهبة اسمها "حكم مصر".

لم يسعَ المدرس بالكلية الحربية، العائد توًّا من حرب فلسطين، إلى منصب مرموق أو إلى حكم، ككثير من الضباط الأحرار، شمس بدران مثالا، والذي سعى للحكم بحسب محمود الجيار، مدير مكتب "عبدالناصر"، لكن المناصب هي التي كانت تهرول وراء الرجل الصامت، الذي انضم للضباط الأحرار قبل ثورة يوليو بثلاثة أشهر وكان المسؤول عن عملية تحرك الوحدات العسكرية وقاد عملية محاصرة القصور الملكية بالإسكندرية ليلة ثورة يوليو 1952، وكان أول هذه المناصب الحساسة عمله كمدير للمخابرات الحربية عام 1952، ثم المهمة الأصعب: تكوين جهاز مخابرات عامة لمصر في عام 1955، وكان هو مؤسسه وأول رئيس له.

"وأقول لكم بصدق، وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفى فى الأزمة، فإننى على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قرارًا أريدكم جميعًا أن تساعدونى عليه: لقد قررت أن أتنحى تماما ونهائيا عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر"..

كانت هذه الكلمات جزءا من خطاب "ناصر" في مساء 9 يونيو 1967، وقتها كان مؤسس المخابرات، أصبح حاكمًا لبلد مهزوم، وبعد الخطاب، كانت مصر منقسمة، مكسورة، متفاجئة بنتيجة حرب لم تحاربها، وكان صوت "عبدالناصر" وصورته في تليفزيون الدولة ورأسه المائل وعينيه الذابلتين، يتدحرج ككرة خيط تفقد حجمها شيئا فشيئا، وبقيت كذلك حتى رحيله في 28 سبتمبر 1970، ليبقى رمزًا لحلم رومانتيكي تبخّر.

بعد الخطاب، كان صاحب الوجه النحيف والقبضة القوية، يفكر، كيف سينفذ تكليفه بمهام رئيس الجمهورية الخاسرة، ليحضر لمعركة كرامة، لكن تفكيره وقلقه في مكتبه خلف الستائر لم يستمر طويلا، فقد خرجت الجماهير في شوارع مصر تقول لـ"عبدالناصر": "استمر.. هنحارب.. لا تتنحّى"، فاستجاب "عبدالناصر" بعد يومين وأجّل قراره بالعودة إلى صفوف الجماهير، ليعود، مع هذا التأجيل، زكريا محيي الدين نائبًا للرئيس ورئيسًا للوزراء، فقدم استقالته من الحكم، الذي استمر 48 ساعة فقط، وفي 20 مارس عام 1968 أعلن اعتزاله الحياة السياسية، وبقي مختفيا عن الأنظار حتى وفاته في 15 مايو 2012.

لن يسعفنا الأرشيف بالتأكيد لنصل إلى إجابة للتساؤل عن سبب اعتزال الرجل للحياة السياسية والعامة، حتى أنه بقي في الظل 44 عامًا حتى رحل، لم يُسمع عنه شيء، اللهم إلا ذلك النعي الذي نشرته "الأهرام" في 5 يناير 2009 موجهًا منه إلى اللواء محمد وفيق أحمد علي، رئيس شرف النادي المصري للتجديف، متمنيًا للفقيد الرحمة، ثم ظهور نادر آخر في جنازة كمال الدين رفعت، أحد الضباط الأحرار، والذي توفي في 13 يوليو 1977.

 

كانت الاحتمالات ستتغير بالتأكيد لتاريخ هذه الفترة، لو أصبح رجل المخابرات القوي رئيسًا لمصر، لكن هناك احتمالات أخرى تشير إلى أن مصر ربما كانت ستسير في نفس النهج الناصري، ومن بين هذه الإشارات ما جاء فى مذكرات الضباط والمؤرخين عن قرارات مجلس قيادة الثورة في بدايتها، مثل هدم ما كان قبل حركة الجيش، فتقرّر إلغاء دستور "23" فى 10 ديسمبر 1952، وفى 17 يناير 1953 صدر قرار بحل الأحزاب والهيئات السياسية ومصادرة أموالها، كما صدر فى 10 ديسمير 1953 الدستور المؤقت الذى منح سلطة السيادة لقائد الثورة، ويحكى عبداللطيف البغدادى، أحد قيادات مجلس الثورة، في مذكراته أنه فى إحدى الجلسات قرّر مجلس القيادة خضوع الأغلبية لرأى الأقلية، وفى جلسة 7 أغسطس 1955 طلب حسن إبراهيم "أنْ تُخوّل السلطة كاملة لعبد الناصر" وأيّده فى ذلك كمال الدين حسين وصلاح سالم وعبد الحكيم عامر والسادات و"زكريا محيي الدين"..

كان الرجل إذن صورة ناصرية أخرى، ربما معدّلة، لكن مصر اختارت طريقًا آخر، غير طريق زكريا محيي الدين، لا أحد يعلم إن كان في صالحها أم لا، لكن حين تختار الجماهير، فاختيارها أمر لا يخضع إلى فكرة الصواب والخطأ، لكنه يخضع لحكمة التجربة.