ارفعوا أيديكم عن مسلسلات رمضان!

لم يكن أحد يتصور أن حالة حرية الرأى والتعبير فى مصر يمكن أن تصل إلى هذا الحد من التدهور بعد انتفاضتين شعبيتين نادرتين فى تاريخ البلاد، اندلعتا من أجل أهداف سامية، كانت الحرية على رأسها بكل تأكيد.

لا ينكر أحد أن البلاد تواجه تحديات خطيرة، يأتى الإرهاب الأسود على رأسها، فضلاً عن مخاطر الفتنة التى يسعى البعض إلى إيقاظها، وحالة التوتر العمومى التى تشد الأعصاب وتهيئ المجال للانفلات والتعبير الغاضب، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية المستفحلة، وتداعياتها الأسوأ المتمثلة فى الغلاء المطرد فى الأسعار.

بسبب تلك العوامل، تتزايد المخاطر على حرية الرأى والتعبير، ويجد المطالبون بالانغلاق، والمصادرة، والتعتيم، وتكميم الأفواه، وتقييد الإبداع، أكثر من ذريعة لشن هجماتهم على المجال الفنى والإعلامى.

لا يمكن لأى منصف أن يدافع عن حالة الإبداع المصرية الراهنة، أو أن ينتصر لمجمل الممارسات الإعلامية السائدة؛ إذ يبدو أن تراجعاً مزرياً يضرب المجالين الفنى والإعلامى، ويبعدهما بوضوح عن المقاصد النبيلة المتوخاة من ممارسة الأنشطة الإبداعية والإعلامية.

يعانى المجالان الفنى والإعلامى علامات تردٍّ مطّرد، بسبب التحديات السابق ذكرها بطبيعة الحال، فضلاً عن تفاقم معدلات الأمية، وتراجع التعليم، وانخفاض مستوى الوعى الثقافى، مما انعكس بوضوح على حالة التلقى، وهى حالة باتت تغرى بالاستسهال والابتذال والانقطاع عن معايير الجودة وآليات الاحتراف.

تلك حقيقة يجب أن نعترف بها، لكن الخطير والكارثى فى آن واحد أن نعتبر أن فرض الوصاية على الإبداع والإعلام، والتدخّل من خلال السلطة الإدارية، أو البرلمانية، أو الأدوات القانونية، أو الضغط والترويع من أجل وقف ممارسات إعلامية وفنية بعينها، أو إجبارها على اتخاذ مسارات معينة، يمكن أن تنجح أو تثمر فى هذا العصر، الذى عرف انفجاراً معلوماتياً غير مسبوق، ونمطاً اتصالياً فريداً فى انفتاحه، يكاد يكون من الصعب جداً السيطرة عليه أو إخضاعه.

وكما كانت العادة فى السنوات الفائتة، فإن موسم الدراما الرمضانية شهد الاكتظاظ والتدافع غير المدروس نفسه، كما عانى من أنماط أداء رديئة، وعمليات إنتاج لا تتبع المعايير الاحترافية، وممارسات تُخضع المحتوى الإبداعى لاعتبارات إعلانية أو رغبات النجوم، بشكل يُحرّف العمل الفنى ويفقده اتزانه.

وكالعادة أيضاً شهد هذا الموسم عدداً من الهجمات على صناعة الدراما، لم يهتم بهذا التردى الفنى والإنتاجى بقدر ما اهتم بهواجس فئوية أو دعاوى تتعلق بالفضيلة أو خلط مريع إزاء الاعتبارات التى تقوم عليها صناعة المسلسلات، باعتبارها فى الأساس صناعة.

وبموازاة هذه الهجمات الحادة على الدراما تكرّرت الأزمة نفسها التى تصنعها برامج المقالب، وهى البرامج التى تتلقى كل عام سيلاً هائلاً من الانتقادات والبلاغات، لا تفعل شيئاً أكثر من زيادة شعبيتها وتعزيز رواجها وتداول أخبارها وقصصها، بما يعمق تأثيرها ونفاذها.

ومن ذلك، أن بعض البرلمانيين طالبوا بوقف عرض أحد أهم تلك البرامج، كما تقدم برلمانى بطلب إحاطة بخصوص مسلسلات رمضان و«تجاوزاتها»، فضلاً عن حملة إعلامية كبيرة تشترك فيها عناصر عدة تتحدث عن «تكلفة المسلسلات التى بلغت مليارات»، ويطلب بعض المنخرطين فيها أن تُخصّص تلك الأموال الطائلة للمشروعات التنموية أو مساعدة المحتاجين.

إن ذلك أمر ينطوى على خلط كبير، ويمثل مقاربة هزلية بكل المقاييس، لأن من يطرح هذا الخيار لا يعى ببساطة أن الدراما صناعة، وبوصفها صناعة، فإن منتجيها يخصصون أموالاً للإنفاق عليها، بغرض الاستثمار، وأن تلك الأموال عادة ما تعود بالأرباح عليهم، كما أنها تسهم بشكل فعّال فى تحريك عجلة الاقتصاد، لأنها تُعزّز عرض الإعلانات، التى هى ضرورة من ضرورات الانتعاش الاقتصادى واكتمال حلقة الإنتاج.

تغضب المضيفات الجويات من مسلسل «أرض جو»، ويُقدّم محامون بلاغاً ضد مسلسل «كلبش»، بداعى أنه «نال من صورة المحامى»، وتثير هيئات نسوية اعتراضات لأن صورة المرأة تُقدّم بشكل «مهين»، ويتم منع إعلان لإحدى الجمعيات الخيرية، لأنه «لا يخدم صورة جهود الحكومة فى عملية التنمية»، ويشن نشطاء حملة على «يوتيوب»، مطالبين الجمهور بالكف عن مشاهدة التليفزيون، لأنه «يصرف الناس عن العبادة فى رمضان».

إن تلك الدعاوى والممارسات كلها تمثل تقييداً لحرية الإعلام والإعلان والإبداع، وتستخدم ذرائع واهية، وتستند إلى اعتبارات متهافتة، وستكون انعكاساتها خطيرة، دون أن يعنى هذا بالطبع أن حالة الإعلام والفن فى مصر بخير.

يجب ألا تكون حرية الإعلام وحرية الإبداع مجالاً للمساومة، ويجب ألا نبالغ فى وضع قيود فى هذا المجال، لأن التدخلات بعدها لن تتوقف، وسنجد أنفسنا نسأل يوماً: «هل يمكن أن تظهر امرأة على الشاشة؟»، أو «لماذا لا يجرى الحوار مذيع رجل بدلاً من مذيعة امرأة؟»، وهو ما قيل فعلاً فى أطروحة «هاتولى راااجل» الشهيرة.

وبفتح الباب أمام هذه الهجمات والإجراءات المقيّدة سيمكن لأى فئة أو طائفة أو جماعة ضغط أن تفرض على المنتجين والكتاب والمبدعين ما يكتبون، وأن تمنعهم من تناول قضايا مجتمعية بعينها بغرض حماية الصورة أو حماية الأخلاق أو حماية الأمن القومى.

بعض المجتمعات اجتهدت لكى تضع مقاييس تُمَكّنها من اتخاذ قرارات فى شأن أنماط أداء إعلامى أو إبداعى مثيرة للجدل، باعتبار أن حرية الرأى والتعبير لا تعنى الموافقة على كل شىء يُكتب أو يُقال أو يُصوَّر، لأن هناك خطوطاً لا يمكن انتهاكها.

ومن أهم ما توصلت إليه تلك المجتمعات أن حرية الرأى والتعبير مصونة ولا تُمس، خصوصاً فى المجال الفنى والإبداعى، لكنها يجب أن تُقيّد عندما تثير الكراهية، أو تُحرّض على العنف، أو تطعن فى المعتقدات المقدسة، أو تشجع على التمييز، أو تنال من الحقوق الثابتة للآخرين.

لقد حاولت المحكمة الأمريكية العليا أن تُرسى معياراً للتعامل مع «حرية الإبداع» فى عام 1973، فرأت أن تستند إلى صيغة طورها أحد المفكرين، وهى صيغة تمت تسميتها «مقياس ميلر» Miller Test، وهو المقياس الذى يجيز أى عمل إبداعى أو إعلامى إذا استوفى شروطاً ثلاثة؛ هى: عدم خرق القوانين النافذة، وتأييد أو موافقة قطاع مؤثر من الجمهور، والانطواء على جهد فنى وإبداعى خاص.

علينا أن نحاكم الأعمال الإعلامية والفنية والأدبية بمثل تلك المعايير وليس بمعايير سياسية وهواجس وتأويلات أخلاقية وصراعات مصالح.

يجب التفرقة بين شخص تحدث من منبر إعلامى، فأثار الكراهية، أو طعن فى المعتقدات المقدسة لدى قطاع من المواطنين، أو حرّض على العنف، أو طعن فى الأعراض، وبين من طرح فكرة درامية تصور انحرافاً لدى بعض من يعملون بمهنة معينة، أو عرض نموذجاً إنسانياً منحرفاً من دون تعميم.

تحفل الأنشطة الإبداعية والإعلامية المصرية بالكثير من جوانب العوار والخلل، مما يستلزم جهوداً رسمية ومجتمعية منسقة لإخراجها من عثرتها وتطويرها وحملها على اعتماد أسس أكثر احترافية وأكثر إخلاصاً لقيم الإبداع؛ وهى عملية صعبة ومعقدة لا يخدمها القمع والمصادرة والتقييد.