الإمام الشافعى.. مؤسس أكبر المذاهب الفقهية

كتب: عبدالوهاب عيسى

الإمام الشافعى.. مؤسس أكبر المذاهب الفقهية

الإمام الشافعى.. مؤسس أكبر المذاهب الفقهية

شهد القرن الثانى الهجرى نشاطاً علمياً كبيراً، وكونت كل فرقة دينية مذهباً عقائدياً وفقهياً لها تحاجج به وتنافح عنه وعن تصوراتها الدينية، فكثرت المناظرات والاستدلالات الدينية، فوجد السنة والشيعة والخوارج والمعتزلة، الأمر الذى أدى لتشعب الآراء واختلافها بل وتناقضها فى بعض الأحيان، بينما الدليل واحد يكون فهمه متناقضاً بلا عاصم من هوى أو غرض فى تفسير الدليل واستنباط الحكم منه، وأدى غياب الضوابط العلمية للتفكير الدينى واستنباط الأحكام والمفاهيم الشرعية إلى تحرك الشاب النابغ الفطن محمد بن إدريس الشافعى لوضع ضوابط لأهل السنة فى التفكير الفقهى واستخراج الأحكام من الأدلة الشرعية، وهو ما يعرف بأصول الفقه، لقد جمع الإمام الشافعى أول كتاب فى أصول الفقه حتى يعصم مذهب أهل السنة من الزلل أو الخلل فى عملية استنباط الأحكام الشرعية وسماه «الرسالة».

{long_qoute_1}

ولد الإمام الشافعى عام 150 هـ وكان ميلاده يوم مات أبوحنيفة، وجلس إلى علماء مكة، وتفقه عليهم حتى صار أهلاً للفتوى، وأذن له شيوخه وهو فى سن المراهقة بالفتوى، وتنقل فى البادية لفترة طويلة حتى أتقن لهجات العرب وأشعارها؛ فلما جاوز العشرين رحل إلى المدينة، وجلس للإمام مالك بن أنس، وقرأ عليه كتابه الموطأ من حفظه.

وضع الشافعى لنفسه منهجاً علمياً واضحاً، فكان يقول: كل متكلم على الكتاب والسنة هو الجد، وما سواه هو الهذيان، ويقول: إذا وجدتم فى كتابى خلاف سنة رسول الله فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعُوا مَا قُلْتُ، وإذا صح الحديث فهو مذهبى، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولى عرض الحائط، أى سماء تظلنى، وأى أرض تقلنى إذا رويت عن رسول الله حديثاً فلم أقل به؟ فقد كان رائداً أثرى الحياة العلمية الإسلامية.

{long_qoute_2}

لقد وضع الشافعى قانوناً شاملاً للفقه الإسلامى بعيداً عن الطابع الشخصى ليصير حكماً ومرجعاً بين الجميع، تطرّق الشافعى فى رسالته التى بلغت 600 صفحة، إلى القرآن الكريم والسنّة ومقامها بالنسبة للقرآن الكريم من حيث الدلالة والناسخ والمنسوخ وعلل الأحاديث والإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان، وهو القول بغير خبر ولا قياس، وردّه ورفضه، فقد بدا واضحاً ضرورة وجود قانون للتفكير الفقهى والاستنباط، يرجع الجميع إليه، لذا كتب إليه عبدالرحمن مهدى (125 198هـ) يسأله وضع هذا القانون الكلّى، وضبط مناهج الاستنباط، وتقييدها بكتاب جامع لهذه القواعد، يعرّف دلائل الفقه، ويبيّن مراتبها، لعلّه يساعد على ردم الهوّة بين أهل الرأى وأهل الحديث، ويمهّد لظهور فقه جديد جامع لما فى فقه كلّ من الفريقين من فضائل، ويبدو أنّ طلب عبدالرحمن مهدى صادف هوى فى نفس الإمام الشافعى؛ فكتب كتاباً وأرسله إلى الإمام عبدالرحمن بن مهدى، ولذلك سمّى بالرسالة؛ فأقبل عليه أهل الحديث والرأى سواء، وتحوّل الصراع الذى كان بين الفريقين إلى تنافس فى ضوء قواعد الشافعى الثابتة للاستنباط، يقول الإمام أحمد ابن حنبل: «ما زلنا نلعن أهل الرأى ويلعنوننا حتى جاء الشافعى فمزج بيننا».

ويقول الإمام أبوزهرة «بعدما وجد الشافعى شيئاً من الفوضى فى طرق الاستدلال ورأى جهلاً واضحاً عند كثير من المحدثين الذين اقتصروا على الجانب الحديثى فقط وفشلوا فى الجانب الفقهى، حيث نقلوا العديد من الأحاديث دون النظر لمعانيها أو مخالفة بعضها لبعض، فوضع الإمام الشافعى علم أصول الفقه ليكون ميزاناً وضابطاً لمعرفة الخطأ من الصواب فى الاجتهاد، وليكون قانوناً كلياً يلتزم به المجتهد فى عملية استنباط الأحكام».

كان الإمام الشافعى ببغداد وتفقه فيها ثم ذهب إلى مكة سنة 189، واتخذ له حلقة فى المسجد الحرام يعلم الناس ويفتى ثم عاد إلى بغداد سنة 198، وقد صنف فى هذه الفترة عدة كتب منها الرسالة، وكانت له اجتهادات متعددة فى الفقه وأصوله، وأسس الإمام الشافعى مذهبه فى تلك الفترة بينما كان يتردد ما بين بغداد ومكة عدة مرات دونما مستقر بينهما، وقد علل العلامة الإمام أبوزهرة قصر إقامته فى بغداد بما وجده فى خلافة المأمون من غلبة العنصر الفارسى على مقدرات الأمور فى الدولة وتقريب الخليفة للمعتزلة واعتناقه أفكارهم، وهو ما حمله للرحيل إلى مصر ليتفرغ لنشر وتدوين مذهبه الجديد.

رحل الإمام الشافعى إلى مصر فى أواخر عام 199 هـ واستوطنها وأخذ يدون مذهبه الجديد خلال أربع سنوات قضاها بها إلى أن توفى بالعام 204، وكانت مصر فى هذه الآونة بلداً سنياً خالصاً لم تصله أزمات وصراعات دار الخلافة فى بغداد ما بين شيعة ومعتزلة وسنة وغيرها من المذاهب، ولم تكن عروبتها أو ديانتها قد التبست بشىء كما الكثير من الأقطار الإسلامية فى هذه الآونة، يقول البيهقى عن الربيع بن سليمان يقول سألنى الشافعى كيف تركت مصر؟ فقلت تركتهم على ضربين: فرقة منهم قد مالت إلى رأى مالك وأخرى إلى أبى حنيفة، فقال الشافعى: أرجو أن أقدم إليها وآتى أهلها ما أشغلهم به عن القولين، ففعل ذلك حين دخل مصر.

وقام بتغيير الكثير من معالم هذا المذهب حينما قدم إلى مصر وصار له مذهبان، القديم (195-199)، والمذهب الجديد(199-204)، فبعد أن استقر الإمام الشافعى إلى مصر أواخر سنة 199 وبقى فيها إلى أن توفى سنة 204، وفى هذه السنوات الأربع غير كثيراً من اجتهاداته، وأعاد تصنيف كتبه، والتف حوله عدد من تلامذته المصريين، فحملوا عنه هذه الاجتهادات، ورووا عنه تلك الكتب، منهم البويطى والمزنى والربيع المرادى، ويتمثل المذهب الجديد فى كتبه المصرية نحو الأم فى الفقه، والرسالة الجديدة، وغيرهما.

وقد ذكر العلماء عدة أسباب لتغيير الشافعى لاجتهاداته فى عدد من المسائل لما ذهب إلى مصر، منها اطلاعه على كثير من السنن والآثار مما لم يكن قد سمعها من قبل، واعتماده على قياس جديد يكون أرجح من الأول، واختلاف البيئة، ففى مصر رأى من العادات والحالات الاجتماعية ما تختلف عما رآها بالحجاز والعراق.

رأى الشافعى دنيا جديدة فى مصر تكونت من نتاج المدرسة المصرية فى الفقه بزعامة الإمام الليث سيد الفقهاء، وعادات المصريين وتقاليدهم المعيشية التى نتجت عن التقاء الحضارات القبطية والمصرية القديمة واليونانية، وهو ما لم يعرفه أو يره من قبل، ما دعاه لإعادة النظر فى مذهبه وآرائه من جديد، ثم أعلن للناس أن آراءه ليست إلا التى كتبها فى مصر، يقول أحمد بن حنبل أحد تلامذته: «خذوا عن أستاذنا الشافعى ما كتبه فى مصر».

ينقل الربيع أحد تلامذته حب الشافعى لمصر وقوله شعر بها يقول قال الشافعى: لَقَدِ أصبحَتْ نَفْسِى تَتُوقُ إِلَى مِصْر َومنْ دُونِهَا أَرْضُ المَهَامِة وَالقَفْرِ» وفى مصر وجد الشافعى انفتاحاً ليتحدث عن الشورى ومكانتها فى الإسلام، واعتبرها فرضاً على الحاكم والمحكوم، وأن الحاكم واجب الطاعة ما دام الناس قد اختاروه ببيعة لا إكراه فيها ولا زيف، جلس الإمام الشافعى يعلم الناس ويحاورهم فى حلقاته الثلاث: حلقة القرآن، وحلقة الحديث، وحلقة الأدب، حتى غار منه بعض الفقهاء المحليين وحينما شغب عليه فقيه مصرى واعتدى على الشافعى أمر الوالى بهذا الفقيه أن يضرب بالسياط، ثم طيف به على جمل، وقد حلقت لحيته وشاربه ورأسه، نظراً لحب المصريين له.

تلقى علماء الأمة علم الإمام الشافعى رحمه الله بالقبول ونزل أعلى المنازل العلمية بجهاده وصبره على العلم وإصراره على التجديد الدينى، ما كلفه الارتحال من بلد لآخر حتى يجد البيئة المناسبة لنشر فكره وتجديده، قال أحمد بن حنبل فيه: «يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلاً يقيم لها أمر دينها، فكان عمر بن عبدالعزيز على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعى على رأس المائة الأخرى»، وقال أيضاً: «كان الشافعى كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، فهل ترى لهذين من خلف، أو عنهما من عوض»، ويقول ابن خلدون فى المقدمة: (وكان أول من كتب فيه أى فى (علم أصول الفقه) الشافعى رضى الله عنه أملى فيه (رسالته المشهورة) تكلم فيها فى: الأوامر والنواهى، والبيان، والخبر، والنسخ، وحكم العلة المنصوصة، من القياس).

أراد الإمام الشافعى الجمع بين مدرستى الفقه المتشاحنتين فى عصره، مدرسة الرأى ومدرسة الأثر، لإنهاء خلافات البيت السنى، ووضع كتاباً عاصماً لفهم النصوص الشرعية ولإنهاء أى خلاف أو هوى فى فهم النص، ورغم قرب عهده بالإمامين العظيمين أبوحنيفة ومالك وتشبع المسلمين الفكرى والفقهى على يد الإمامين الكبيرين إلا أن الإمام ذا النفس الكبيرة والهمة العالية أصر على التجديد وإضافة مذهب ثالث يكون طريق هداية لهذه الأمة، وجامعاً لشتاتها، فلم يهل الشاب العشرينى جلال تراث أو عظمة أسماء من سبقوه بأيام وشهور قليلة وإنما بحث عما يصلح حال الأمة ويجمع شتاتها وفعله خالصاً مخلصاً لله، فرزقه الله القبول وبات واحداً من عظماء الإسلام، وأحد أعظم المجددين باتفاق العلماء، وذلك وقتما كان العالم يحصل على اعتباره بما يقدمه من تجديد وليس ما يردده من تراث.

انتشر المذهب الشافعى فى كل أرجاء العالم الإسلامى؛ فسيطر على مصر، خاصة الوجه البحرى وبلاد الشام، وزاحم مذهب أبى حنيفة فى العراق ونشر تلاميذه المذهب فى بلاد خراسان وسجستان وما وراء النهر، وأقصى بلاد الشرق كإندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وسريلانكا، وأستراليا وبعض أجزاء من الهند، كما انتشر فى اليمن وأجزاء من الحجاز، لكنه لم ينتشر فى بلاد المغرب ولا فى الأندلس لتمكن المذهب المالكى هناك.


مواضيع متعلقة