محمود الكردوسى يكتب: صناعة العدو فى السينما الأمريكية (1-2)

كتب: محمود الكردوسى

محمود الكردوسى يكتب: صناعة العدو فى السينما الأمريكية (1-2)

محمود الكردوسى يكتب: صناعة العدو فى السينما الأمريكية (1-2)

لأن السينما الأمريكية تتكلم بضمير الأمة فإن كل شىء فيها أسطورى، حتى العلاقات الإنسانية الشفافة التى تقدمها هذه السينما بعيداً عن محيطها وعلاقتها بالواقع، رافعةً إياها إلى مكانة عالية تطلق «العادى» إلى حد أنها تجافيه وتحتقره.

إن أمة تريد أن تبدو قوية وأن تحكم العالم وهى بلا تاريخ، لا يعود أمامها سوى الأسطورة تتعلق بأهدابها وملحقاتها وحواشيها. والسينما بصورة عامة تخلق الأسطورة إذا لم تجدها، وإذا وجدتها عززتها وأضافت إليها. وأمام معادلة «لا أسطورة.. إذن لا ماضٍ».. يبرز معنى «لا وجود». وما يخوضه الأمريكيون وتخوضه السينما الخاصة بهم هو صراع وجود، لذا تبدو الأسطورة فى هذه السينما منفصلة عن معناها الخاص، وكذلك التاريخ. ومن هذا المنطلق فإن «أفلام الغرب» أو «الويسترن»، لم تكن مجرد تراشق بين غزاة مستعمرين يمثلهم الكاوبوى بقبعته العريضة وحصانه الجامح ومسدسه الذى يتدلى على خصره، وبين أصحاب الأرض الأصليين الذين يمثلهم الهندى الأحمر بمظهره البدائى الرث وصراخه الهيستيرى وغبائه القاتل، بل كانت أول محاولة لتأسيس «صناعة عدو» فى السينما الأمريكية. هذه المحاولة بدأت مع ظهور السينما فى أمريكا كفن جماهيرى، أى منذ العام 1903، عندما أخرج «إدوين س. بورتر» فيلمه الشهير (سرقة القطار الكبرى) لحساب توماس إديسون، لكنها لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وعبر عشرات، وربما مئات الأفلام، تطورت سينما الويسترن وأصبح لها مبدعون ومنظرون، ومن ثم أصبحت لها فلسفتها الخاصة. وبقدر ما نجح سينمائيون كبار من طراز «جون فورد» فى الارتقاء بصورة الكاوبوى إلى مستوى البطل الأسطورى، ومن ثم إزالة الانطباع السائد بأنه مجرد مستعمر قاتل.. تضاءل الإحساس لدى الأمريكيين على الأقل بأن الهندى الأحمر كان العدو المباشر. لقد تعرض الهنود الحمر فى غالبية أفلام الويسترن لمذابح بشعة وعمليات إبادة مروعة، لكنهم -فى إطار تناول السينما الأمريكية لصراع الوجود هذا- لم يكونوا سوى إحدى العقبات التى لا بد من تجاوزها ليفرض المهاجرون الأوروبيون شروطهم الحضارية الجديدة. إن الطبيعة القاسية، والخارجين على القانون فى أكثر إنتاجات هذه السينما نضجاً ومكراً فى الوقت ذاته.. لا يقلان تحدياً وعداءً للكاوبوى من الهندى الأحمر الذى تحول إلى مجرد «ضحية حتمية» تثير من الشفقة أكثر مما تثير من الجدل. وحتى فى الأفلام التى اعتبرت رد اعتبار للهنود الحمر مثل (الراقص مع الذئاب) لكيفن كوستنر.. يعود الأبيض المتحضر فى النهاية إلى وعائه الحضارى، آخذاً معه فتاته البيضاء التى كان الهنود قد اختطفوها وهى طفلة فى إحدى غاراتهم على منزل أسرتها، تاركاً هؤلاء المساكين يواجهون مصيرهم الحالك.

يتعمد صانعو أفلام الويسترن فى الغالب التركيز على عنف السكان الأصليين، ويردونه إلى طبيعتهم البدائية، المتوحشة، لتبرير إبادتهم والتنكيل بهم، فى حين أن هذا العنف لم يكن سوى رد فعل لعنف المستعمرين الأوروبيين الذى مارسوه، لا فى سياق عملية إحلال حضارى.. بل بهدف الاستيلاء على الذهب والفضة، ونهب البلاد، وتحويلها إلى أوروبا. وقد حقق بعض هذه الأفلام نجاحاً خارقاً رغم وحشيتها مثل (العسكرى الأزرق) الذى أخرجه «رالف نيلسون» ويصور مذابح البيض المستعمرين ضد قبيلة من الهنود، يقوم البيض فيها بتقطيع أثداء النساء وتشويه الجثث وقتل الأطفال بدعوى اختطاف امرأة بيضاء. كذلك فيلم (ماتوا وهم ينتعلون أحذيتهم) لـ«مايكل كورتيز» الذى قدم صورة متكاملة لإبادة وهزيمة بقايا السكان الأصليين على أيدى الجنرال «كوستر» بطل الحرب الأهلية، والمذابح التى ارتكبها ضدهم حتى قبل أن يتمكن بعض الهنود من قتله. وقد جاء اختيار «أيرول فلين»، وهو نموذج للبطل الأمريكى اللعوب والوسيم صاحب الشعبية الطاغية فى الأربعينات، ليقوم بدور الجنرال «كوستر» فيما يشبه عملية إعادة إنتاج لهذا السفاح وتصنيعه كبطل لا يُشقّ له غبار، ونموذج للرجولة والشرف والوسامة.

وإلى جانب كونه مجتمعاً من المستوطنين الأوروبيين فى الأساس، قام على إبادة السكان الأصليين بهدف نهب أراضيهم.. فهو أيضاً يقوم على علاقات القوى بين مجموعات عرقية وثقافية لم تنصهر انصهاراً كاملاً، وبالتالى سيطرت على الثقافة السائدة فى أمريكا مجموعة «الواسب»، أى البيض الأنجلوساكسون البروتستانت، تليها مجموعة البيض الكاثوليك الذين ينحدرون من أصول إيطالية أو أيرلندية أو غيرها، ثم مجموعة اليهود البيض، وإلى جانب هذه المجموعات الثلاث التى تشكل القوى المسيطرة اقتصادياً والمؤثرة اجتماعياً رغم تناقضاتها الجزئية.. هناك الأقليات، وأكبرهم عدداً الزنوج الذين وجدوا أنفسهم محمولين قسراً إلى العالم الجديد ليباعوا كعبيد فى مزادات علنية، ولينتقلوا بعد ذلك للعمل فى مزارع القطن وقصب السكر والتبغ فى الجنوب. ولنفس الدوافع التى حملت البيض على إبادة السكان الأصليين.. أصبحت مطالبة السود بحقوقهم المدنية بمثابة تهديد أو خرق للنسق الحضارى الجديد، ومن ثم تحول «الأسود» هو الآخر إلى «عدو»، وظلت تلك صورته فى السينما رغم صدور إعلان تحرير العبيد عام 1863.

لقد دأبت السينما الأمريكية على تقديم الزنجى كشخص متخلف حضارياً وعقلياً، وجرى تنميطه بحيث لم تخرج صورته عن: الأفريقى الهمجى.. العبد القانع بعبوديته.. الخادم المطيع.. السياسى الفاسد.. المواطن الهارب من مسئولياته.. اللص المظلوم.. العملاق الشهوانى.. المتمرد على لونه.. الطباخ بالوراثة.. الموسيقى.. المهرج.. المشعوذ…إلخ. وقد أدى تقديم الزنجى بهذه الصورة إلى إضعاف رغبته فى المطالبة بحقوقه، ومن ثم لم يعد مكترثاً بأحداث مجتمعه أو مشاركاً فى قضايا بلده. ويقسم أحمد رأفت بهجت مراحل تناول الزنوج فى السينما الأمريكية إلى أربع، بدأت أمريكياً عام 1903 على يدى «إدوين س. بورتر» بفيلم (كوخ العم توم) المأخوذ عن قصة لـ«هارييت بيتشر سنو» كتبت فى 1852 ووصفها النقاد بأنها إذا لم تكن السبب المباشر فى الحرب الأهلية كما قال لنكولن فإنها على الأقل كانت من أسبابها، لأنها استطاعت أن توقف العمل بقانون العبيد الهاربين، الذى نتج عنه مذابح بشعة تسببت فى تشريد آلاف العائلات الزنجية. وفى عام 1907 قدم ديفيد وارك جريفيث، الجنوبى المتعصب، عدداً من الأفلام التى أظهرت السود بشكل بشع مثل (العبد) و(المعركة) و(أعظم شىء فى الحياة)، وبشكل خاص فيلمه الرائد (مولد أمة) الذى حشد فيه كل عوامل الإذلال الممكنة للزنوج وحاول بقوة مناصرة المنظمة الإرهابية المعروفة بـ«الكوكلوكس كلان» التى نشأت فى الجنوب وارتكبت مئات الجرائم ضد الزنوج.

ومع أن المرحلة الثانية التى تغطى عشر سنوات بين الحربين العالميتين شهدت تغيرات ملحوظة فى علاقة الزنوج بمجتمعهم وظهور ما سمى بـ«الزنجى الجديد»، ومحاولة بعض السينمائيين رد الاعتبار للسود فى أفلامهم.. فإن هذه النزعة التمجيدية كانت فى الحقيقة انعكاساً اضطرارياً لبعض الأوضاع القائمة، وهى لم تكن تدعو أيضاً إلى تعايش عنصرى أو تقدم حلولاً إيجابية لمشكلة الزنوج.. بل كانت تروج لدافع خبيث ومغرض هو أن مشكلة التمييز العنصرى ناتجة بالأساس من إحساس الزنجى بالنقص بسبب لونه!.

 

مشهد من فيلم «الراقص مع الذئاب»


مواضيع متعلقة