أوراقهم تحكي 11| ضابط بالحملة الفرنسية: القهوة غذاء المصريين

كتب: دينا عبدالخالق

أوراقهم تحكي 11| ضابط بالحملة الفرنسية: القهوة غذاء المصريين

أوراقهم تحكي 11| ضابط بالحملة الفرنسية: القهوة غذاء المصريين

في الوقت الذي كانت تعاني فيه مصر من النزاع بين الدولة العثمانية والمماليك، شكَّلت مطمعا وفريسة سهلة لفرنسا، التي سرعان ما شنت عليها حملة عسكرية بقيادة نابليون بونابرت، لإقامة قاعدة فيها تكون نواة لإمبراطورية فرنسية في الشرق، وقطع الطريق بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند من ناحية أخرى وأيضا لاستغلال مواردها.

الحملة الفرنسية على مصر.. حدث وارى الثرى من شهدوه وعايشوه من أهالي مصر وفرنسا، إلا أنه ظل محفورا بكتب التاريخ التي تناقلتها الأجيال، ولكن من قرأ ثم كتب ليس كمن رأى رأي العين، كالنقيب جوزيف ماري مواريه، الذي دون مذكراته يوميا أثناء مشاركته بالحملة، التي استمرت من 1798 وحتى 1801.

في 208 صفحات، دونّ النقيب مواريه، ما مرّ وعايشه منذ التحاقه بالجيش الفرنسي للمشاركة في الحملة، على قصاصات ورق متعددة جمعتها أسرته ورتبتها بالتاريخ لضمها في كتاب واحدا، ترجمته للعربية كاميليا صبحي، عن المشروع القومي للترجمة، والمجلس الأعلى للثقافة، عام 1984.

جوزيف مواريه، حفيد إحدى العائلات الفرنسية النبيلة، ترعرع في كنيسة كونتاري بدوفين، التي كان يعتزم العمل فيها، إلا أنه في أحد الأيام قبيل بدء الحملة بما يقرب من شهر، التقى أحد المجندين بفيلق "آكتيان" لفت نظره بهيئته وتأنقه وحلو حديثه فلم يتركه إلا بعد أن جنده بالفيلق، ثم ما لبث أن انضم للحملة الفرنسية على مصر برتبة كابتن، وأصبح نقيبا فيما بعد، حيث كان مسؤولا عن الكساء باللواء الخامس والسبعين مشاة الملقب بـ"الذي لا يقهر".

وكتابه يغطي الحملة الفرنسية بأكملها منذ إبحارها وحتى عودتها، ويعطي فيه صورة دقيقة للعمليات العسكرية التي دارت في مصر وفلسطين، وكتب عن الجنود وكل ما يشغلهم والعصيان والأحلام الاستعمارية، واهتم بوصف النيل والأهرامات والحيوانات والطيور وظاهرة السراب.

"عقدنا آمالنا على رحلتنا إلى مصر، فكم ألهبت قصص التاريخ خيالنا، بجعلها كل فتيات هذا البلد في سحر وجاذبية كليوباترا.. أخيرا سوف نرى هذه الأرض العتيقة، مهد العلوم والفنون، يالها من فرحة، سوف نشهد تلك الآثار الخالدة صنيعة قدرة الفراعنة، كم من الأشياء كفيلة بأن تلهب خيال وشجاعة ضابط فرنسي حظه من العلم قليل، ليتنا نصل سريعا، كم نتوق للثأر لدماء المسيحيين أسلافنا، هكذا رحنا نتفاخر بأننا سنعيد الحضارة إلى هذا البلد"... بهذه الكلمات المتعددة كشف الجندي مواريه شغفه الشديد لمصر، أثناء اتجاه الحملة إليها عقب الاستيلاء على مالطا.

وبعد أن وطأت قدماه البلاد، أفرد العديد من الصفحات بمذكراته لوصف الأقاليم التي زارتها الحملة وعادات سكانها، والتي استهلها بالإسكندرية التي رأى أنها كانت تتسم بـ"البدائية الإفريقية"، فيما شبه القاهرة بالعاصمة الفرنسية، قائلا إنها "بكبر باريس وتعادلها في الزحام وشوارعها الضيقة"، بينما اعتبر أن دمياط هي "أبهج مدن مصر وأكثرها نشاطا تجاريا".

وقال النقيب الفرنسي إنه قبل قدوم الحملة لم تكن في مصر أي حانات أو نُزل، ولم يكن هناك مرطبات سوى القهوة السادة "وكان المصريون لا يدخرون في هذا وسعا، حتى إنهم كانوا يحتسون ما يقرب من عشرين فنجانا في اليوم، وكان هذا يمثل غذاءهم الأساسي"، لافتا إلى أن الفرنسيين هم من أقاموا النُزل والمقاهي ولكنها كانت غالية الثمن.

ولفت إلى أن "ركوب الحمير كان الوحيد الذي يمدّ ضباط الحملة الفرنسية بالبهجة في القاهرة، فكنا نجوب بها شوارع المدينة أو نزور بها الأنحاء المجاورة، فاستئجارها كان بسعر زهيد وسرعتها تفوق مثيلاتها في أوروبا".

ويروي أن الفرنسيين حاولوا التغلغل في حياة المصريين لكسب مودتهم، فشاركوا في عدد من الاحتفالات المحلية المهمة، وخاصة أثناء الفترات الخالية من المعارك، ففي 29 أغسطس 1798، شاركوا في حفل "فيضان النيل" الذي شارك فيه عدد من كبار الشخصيات، قائلا: "وخلاله يشقون قناة تندفع فيها المياه في أرجاء المدينة، وفي هذه اللحظة تسري حالة عامة من النشوة والمرح تظهر من خلال الغناء والضحك وممارسة الألعاب الريفية، ونظرا لحرص الفرنسيين على كسب مودة البسطاء ونيل عطفهم، فقد عملوا على توفير الحماية لحالة السعادة والمرح في المدينة فأمدوها بالحراسة اللازمة، كما حرص جنرالاتنا على حضور الاحتفال بزي الاحتفالات الرسمية".

وتابع قائلا إنه بعد أيام قليلة، أقيم الاحتفال بالمولد النبوي، الذي اعتبره أنه ذكرى "وفاة محمد"، والذي كان للفرنسيين دور بارز أيضا فيه، مضيفا: "فقد أضفى وجود قواتنا بأسلحتها وموسيقاها على المنظر العام أجمل صورة، وتم إنارة المدينة بأكملها وجاب علية القوم الشوارع بما يدل على مكانتهم أو وظيفتهم يتبع عبيد بعضهم ملح بينما حمل آخرون المشاعل".

وواصل قائلا إن الفرق الموسيقية الفرنسية والتركية تقدمت الموكب، حتى وصل الجميع إلى الساحة "حيث رأينا إضاءة قوية على هيئة قبر محمد معلقة في الهواء إشارى لا شك للاعتقاد الشائع بأن هناك قوة مغناطيسية تجذب قبره لقبة معبد مكة يوم مماته، فكان لهذا المشهد صدى عظيم لبن بني شيعته وكأنه معجزة كبر، والحق أننا شاركنا في الاحتفال لاعتبارات سياسية".


مواضيع متعلقة