ميثاق حماس.. فقه الواقع يتغلب

تتسرع الجماعات وحركات التحرر فى كتابة ميثاق لها فى بداية خطواتها قبل أن تكتسب الخبرات السياسية وقبل قراءة الواقع حولها، فتميل فى هذا الميثاق إلى الأيديولوجية لكسب أفرادها والآخرين، وتنحو فيه نحو الآمال الكبيرة غير الواقعية التى لا تناسب زمانها ومكانها وقدراتها، ولا تلائم الوضع المحلى والإقليمى والدولى، فيكون هذا الميثاق المؤدلج المحلق فى الأحلام الوردية عبئاً عليها بعد ذلك، وقيداً يقيدها عمراً حتى تقوم بمراجعة هذه المواثيق.

فالجماعات والدول كالأفراد تمر بمرحلة مراهقة فكرية أو سياسية ثم تنضج بعد سنوات، وأهم خصائص المراهقة الفكرية والسياسية أنها تضع أهدافاً وتبنى أحلاماً لا تتناسب مع واقعها، ولا تتواءم مع إمكانياتها، وفى سبيلها لتحقيق ذلك المستحيل، وقد تضيع الجماعة أو الدولة نفسها، ولو أنها تواضعت فى أهدافها وعملت بسنة التدرج وأخذت بالمتاح لكان أصوب لها.

وميثاق حماس الأول كان يهدف لـ«تدمير إسرائيل» رغم فارق القوة والنفوذ بينهما.

وكان فيه أن «حماس جناح من أجنحة الإخوان بفلسطين» مما خوّف منها الأنظمة العربية التى تظهر أو تستبطن العداء للإخوان.

سنوات مضت من عمر حماس خاضت فيها ثلاث حروب كبرى مع إسرائيل، دمر فيها القطاع كلياً، تخلى عنها الجميع ظاهراً، وشمت فيها الكثيرون باطناً.

كان الميثاق الأول لحماس ناجحاً فى دغدغة العواطف، ولكنه فشل فى تحقيق أى هدف، وألّب عليها كل الدول، وهل ستقبل أمريكا والغرب بمحو إسرائيل، إسرائيل واقعياً من أقوى دول المنطقة وتلقى أقوى دعم عالمى، وتملك ترسانة أسلحة تستطيع بها مواجهة الدول العربية، إن كانت ستجتمع يوماً على كلمة، فضلاً عن مواجهة سياسية أو عسكرية مع إسرائيل، فالكل يخطب ودها.

وصلت حماس للحظة مواجهة الحقيقة المرة، وتدشن وثيقتها الجديدة التى قبلت فيها على مضض القبول بدولة فلسطينية على حدود ما قبل 1967، كما أنها فصلت نفسها دون إعلان عن جماعة الإخوان.

لقد جعل الميثاق الجديد «حماس حركة فلسطينية تهدف فقط بالقضية الفلسطينية انطلاقاً من مشروع إسلامى حضارى»، كما حولت صراعها مع إسرائيل من صراع دينى إلى صراع سياسى مع المشروع الصهيونى فقط الذى اعتبره الميثاق مشروعاً عنصرياً عدوانياً إحلالياً توسعياً، وهو فى الحقيقة يطابق هذا الوصف.

وينص الميثاق الجديد على: «رفض حماس اضطهاد أى إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قومى أو دينى أو طائفى، وأن المشكلة اليهودية والعداء للسامية ظواهر ارتبطت أساساً بالتاريخ الأوروبى، وليس بتاريخ العرب ولا المسلمين، كما نص الميثاق على حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهذه الفقرة ستبعد حماس عن تهمة معاداة السامية التى كانت ترمى بها.

أما فى الشأن الداخلى، فدعا الميثاق إلى شراكة سياسية مع منظمة التحرير على أساس المواطنة وليس على أساس الدين، وأنه ينبغى الحفاظ على هذه المنظمة كإطار وطنى للفلسطينيين مع التركيز على إعادة بنائها وتطويرها على أسس ديمقراطية، وهذا يخالف الميثاق الأول الذى كان يرفض الانضمام لمنظمة التحرير، ويوازن بين الاستراتيجية والتكتيك فى عقل حماس.

لكنك تشعر أن الذى كتب الوثيقة «فريقان مختلفان»، أحدهما يميل للرؤية القديمة المتشددة وآخر يميل للرؤية الحديثة، ولكنهما توافقا على هذه الصياغة بعد جهد استمر عامين.

وأعتقد أن هذا هو السبب فى معظم التناقضات التى ظهرت فى هذا الميثاق والتى كانت واضحة جداً مثل قبول حماس بدولة فلسطينية على حدود 1967 وبند «وترفض حماس أى بديل عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً من نهرها إلى بحرها» وبند آخر «باعتبار إسرائيل دولة غير شرعية» فكيف سنصل إلى هذه الدولة الفلسطينية على أرض 1967؟

ورغم ذلك كله فإن هذه الوثيقة تعد من وثائق المراجعات السياسية الكبرى، وإن لم تظهر آثارها الآن فسوف تظهر بعد ذلك، وعموماً فقه المراجعة فقه عظيم نحتاج إليه جميعاً، وكل من يراجع نفسه فى أى مكان سيتطور إلى الأمام وسيجنب أتباعه مهالك لا داعى لإدخالهم فيها دون ثمرة تجنى أو هدف يتحقق، فيكون ممن لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.