لماذا يقرر الإرهابيون القتال؟
- أعضاء الجماعة
- أيرلندا الشمالية
- اتخاذ القرار
- اتهامات جنائية
- الأزهر الشريف
- البنية الأساسية
- الدكتور أحمد الطيب
- السمع والطاعة
- أجواء
- أحداث العنف
- أعضاء الجماعة
- أيرلندا الشمالية
- اتخاذ القرار
- اتهامات جنائية
- الأزهر الشريف
- البنية الأساسية
- الدكتور أحمد الطيب
- السمع والطاعة
- أجواء
- أحداث العنف
فى نهاية شهر فبراير 2017، نظّم الأزهر الشريف ندوة دولية تحت عنوان «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل»، وهى الندوة التى حضرها علماء وسياسيون وباحثون من دول مختلفة من العالم، ينتمون إلى أديان ومذاهب ومواقف فكرية شتى.
وفى كلمته الافتتاحية لتلك الندوة، حرص شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب على فضّ الاشتباك الحاصل بين صورة الإسلام من جانب والعمليات الإرهابية التى تقوم بها جماعات مارقة استناداً إلى اسمه، وباستخدام بعض التأويلات الخاطئة، من جانب آخر.
وضرب «الطيب» أمثلة لأحداث مثل اعتداءات «مايكل براى» بالمتفجرات على مصحات الإجهاض، وتفجير «تيموثى ماكفى» للمبنى الحكومى بأوكلاهوما، والاضطرابات وأحداث العنف التى ضربت تكساس بسبب بيان دينى صادر عن «ديفيد كوريش»، فضلاً عن الصراع الدينى فى أيرلندا الشمالية، وتورط بعض المؤسسات ذات الارتكاز الدينى فى تسويغ إبادة واغتصاب ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً من مسلمى ومسلمات البوسنة.
لا يمكن إنكار أن التأويلات الدينية كانت تُستخدم فى الكثير من أحداث العنف والإرهاب التى ضربت العالم عبر التاريخ، كما لا يمكن التغاضى عن دور التصورات الدينية فى بعض أبشع الحروب وعمليات الإبادة التى شهدتها البشرية، وأن هذا الأمر لم يقتصر على أتباع دين معين. لكن ما حدود دور الفكر الدينى فى صناعة قرار العنف، مقارنة بدور المصالح المادية؟
يؤكد عشرات من الأكاديميين والمتخصصين فى علوم الحرب والإرهاب أن المصالح الشخصية للأفراد والجماعات، بما تتضمنه من مطالب أو مظلوميات، تأتى على رأس الأسباب التى تدعو إلى اتخاذ قرار ممارسة العنف.
لا يغفل هؤلاء الباحثون دور القيم والأيديولوجيا والتأويلات الدينية، لكنهم يضعون هذا الدور فى مرتبة متأخرة عند السؤال عن الأسباب المباشرة والأهم لاتخاذ قرار شن العمليات الإرهابية.
يقودنا هذا إلى خلاصة جديدة تفرض التركيز على الأسباب المصلحية المباشرة وموارد العنف المادية قبل الاهتمام بالاعتبارات القيمية والأيديولوجية فى تحليل دوافع الإرهاب.
ثمة تجربة معملية فريدة خرجت بنتائج مذهلة فى هذا الصدد؛ إذ أراد فريق بحثى أن يحدد بدقة دور الأيديولوجيا فى اتخاذ القرار فى الجماعات ذات الارتكاز الدينى.
استطاع هذا الفريق الذى يعمل فى جامعة «مينيسوتا»، بقيادة البروفسير «ليون فيستنجر»، أن يتنكر ويخترق فرقة دينية تسمى «فرقة يوم الحساب»، وأن يزرع بعض أفراد منه بين الجماعة كجزء منها، بغرض دراسة أفكار أعضائها وسلوكياتهم؛ ما أثمر نتائج مبهرة.
كانت فكرة «فرقة يوم الحساب» الرئيسية تقوم على أن أعضاء الجماعة «أطهار وأبرار وربانيون وأعلى أخلاقياً ودينياً من الآخرين»، ولذلك فإن ربهم سيضرب العالم بطوفان يبدأ من السواحل الغربية للولايات المتحدة، ويمتد ليُغرق الكرة الأرضية، لكنه سيخصهم بأطباق طائرة ستأتى فى منتصف ليلة محددة لتلتقطهم وتأخذهم إلى الخلاص، ليعيشوا فى عالم أفضل.
يقول فريق «مينيسوتا» إن الجماعة كانت تقوم على نظام «السمع والطاعة»، وإن قادتها كانوا يزعمون أنهم «يتلقون كتابة ربانية على كف إحدى العضوات تحمل الأوامر والتعليمات التى يجب اتباعها بصرامة»، وإن أعضاء الجماعة كانوا أسرى تماماً لكل فكرة أو أمر يأتيهم من هيئة قيادية تضم سيدة ورجلين.
على أى حال؛ فقد أفادت «الكتابة الربانية» المزعومة، بحسب ما قالت الهيئة القيادية للجماعة، أنه تم تحديد يوم الطوفان، ومن ثم هبوط الأطباق الطائرة، والتقاط أفراد الجماعة، وأن هذا سيحدث عند منتصف ليلة اليوم المحدد تماماً، وتم تزويد الأعضاء كذلك ببعض الطقوس والممارسات التى يجب الالتزام بها لضمان «عملية التقاط ناجحة».
يقول فريق «مينيسوتا» إن أفراد الجماعة أمضوا اليوم المحدد لوصولهم إلى الخلاص فى حالة من التفاؤل والشغف والسعادة البالغة، وإنهم حرصوا على قراءة «نصوص ربانية» تم تزويدهم بها من قبَل القادة. يوضح الفريق العلمى أن أفراد الجماعة كانوا ينتمون إلى طبقات اجتماعية غلب عليها الفقر وتواضع مستوى التعليم، كما تورط العديد منهم فى اتهامات جنائية.
ينقل «روبرت سيالدينى»، فى كتابه «التأثير» Influence، عن فريق «مينيسوتا» قوله إن أعضاء الجماعة ظلوا منتظرين لأربع ساعات كاملة بعد الموعد المحدد للطوفان وقدوم الأطباق الطائرة دون جدوى، وإن بعضهم أخذ يصرخ بمرارة موجهاً نظراته الحادة إلى قادة الجماعة: «إنها إذن كذبة كبيرة»، فيما راح آخرون يقترحون أنه ربما كان هناك خطأ فى قراءة نص «الكتابة الربانية»، وأن اليوم المحدد للطوفان لم يحن بعد.
كانت الأجواء عصيبة للغاية، وانتاب أعضاء الجماعة شعور مركب من اليأس والذهول والإحباط الشديد، وراح البعض يضرب رأسه فى جدار المستودع الذى تجمعوا فيه انتظاراً للأطباق الطائرة، فيما توجه آخرون لمعاتبة بعض قادة الجماعة.
يثنى فريق «مينيسوتا» على «سرعة بديهة» بعض هؤلاء القادة ثناءً كبيراً، ويطعن فى عقل أفراد الجماعة «المأفونين» طعناً مبطناً؛ إذ يقول إن السيدة الوحيدة العضوة فى الهيئة القيادية سارعت إلى القول إن «رسالة ربانية» ظهرت على كفها، واستدعت على الفور العضو القيادى المخوّل بقراءة مثل تلك الرسائل، ليخرج الاثنان بعد دقائق بأخبار جديدة للمجموعة التى كادت تفقد عقلها، وإيمانها، ووحدتها، بل وحياة أفرادها. «الرسالة الربانية» تقول إن رب الجماعة قرر العفو عن البشرية بسبب إخلاصها وإيمان أعضائها.
لكن الرسالة تشير إلى أن ذلك العفو مشروط ببقاء الجماعة متماسكة وملتزمة بالطقوس الإيمانية، وأن موعداً جديداً لـ«الخلاص» سيتم تحديده فى وقت لاحق بناء على التطورات.
يستغرب فريق «مينيسوتا» كثيراً لأن عدداً كبيراً من أعضاء الجماعة الذين اكتشفوا أنهم تعرضوا لخدعة كبيرة من أفاكين أدعياء، لم يفتكوا بالهيئة القيادية، ولم يوجهوا لها اتهامات بالكذب والاحتيال، ولم يتركوا الجماعة ويثوبوا إلى رشدهم، بل ظلوا مرابطين معها فى انتظار «الأطباق الطائرة» التى ستحملهم إلى «المعنى الأعلى» الذى لن يأتى أبداً بطبيعة الحال.
لكن سيالدينى لا يستغرب أبداً؛ إذ يرى أن أعضاء الجماعة انخرطوا فيها لاعتبارات ذات صلة بخلفياتهم الاجتماعية والمادية والتعليمية، ولشعورهم بالتهميش والإقصاء والمظلومية، وأنه لم يكن باستطاعتهم الانضمام للجماعة وإبداء الامتثال والطاعة لقادتها والانخراط فى أنشطتها من دون التمويل السخى من جانب بعض المتبرعين الأغنياء، والحلول الحياتية الملموسة لبعض مشكلاتهم.
توضح نتائج هذا البحث ببساطة أن الذرائع الأيديولوجية كانت مجالاً للتلاعب والتكييف، بأكثر من كونها دوافع رئيسية لسلوك الجماعات ذات الارتكاز الدينى.
تتفق استخلاصات فريق «مينيسوتا» مع ما يقوله عشرات الباحثين والأكاديميين من أن قرار الانخراط فى أنشطة العنف والإرهاب والانضواء فى الجماعات الحركية ذات الارتكاز الدينى لا ينبع من القيم والأيديولوجيا، بقدر ما يأتى من البنية الأساسية المتمثلة فى أسباب القتال، وموارد القتال.
سيفرض هذا الاستخلاص مراجعة شاملة لكافة الجهود التى تستهدف تجفيف منابع الإرهاب، بالتركيز على الجوانب المادية والاجتماعية والنفعية الملموسة للجماعات الإرهابية وأفرادها، بدلاً من استنزاف الجهود لمواجهة «الأفكار والقيم والأيديولوجيا»، التى ثبت أنها ليست سوى غطاء مفبرك لأهداف وذرائع وموارد لا تمت لها بصلة.