رأس التمثال المكلوم!

١- لست قاهرياً فى الأساس.. بل أنتمى لمحافظة صعيدية صغيرة تبعد عن القاهرة مائتى كيلومتر تقريباً.. ولدت وتربيت فيها.. وما زلت أسكنها مع أسرتى.. لست قاهرياً.. ولكننى أعرف ذلك المكان الذى يتحدثون عنه.. أعرفه جيداً..

إنها شجرة مريم العذراء.. وذلك الشارع الواسع الذى يعقبها.. هناك كان يقطن «شريف» صديقى الذى كنت أزوره مراراً.. وهناك تعرفت على حى المطرية الذى يجمع بين تاريخ الرعامسة الذى يقطن تحت أرضه.. والذى تخبرنا به آثاره المتناثرة بإهمال فى طرقات الحى.. وبين التاريخ المصرى المعاصر الذى يتحرك حتى الآن بين أزقته..!

إنه حى المطرية.. وذكريات الماضى التى تداعت فى ذهنى وأنا أشاهد صور ومشاهد استخراج تمثال رمسيس الثانى من باطن أرضه.. تلك الذكريات التى تجعلك تتساءل فى فضول حقيقى عن أين سنجد آثاراً إن لم نجدها هناك؟ لقد مررت من فوق التمثال مراراً.. فهل كانت لى يد فى ما حدث لرأسه؟ هل كسرت رأسه بقدمى الشابة الفتية وقتها؟

٢- تضارب الآراء بشأن طريقة استخراج التمثال.. تتعدد الاتهامات للحكومة بالإهمال الذى أدى إلى أن يخرج التمثال مكسور الرأس.. بينما تنفى وزارة الآثار وترد بأن التمثال كان مكسوراً من الأساس!

تتحول القنوات التليفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعى إلى مجموعة من خبراء الآثار الذين يدلون بدلوهم فى الأمر، حتى تظن أن بعضهم قد اشترك فى بعثات اللورد كرومر.. ويتفنن الجميع فى إبداء رأيهم فى استعمال «اللودر» لاستخراج التمثال المكلوم الذى ساقه حظه العاثر إلى المطرية.. وما بين تباين الاتهامات وتعدد التبريرات.. يصبح الموقف -بمعزل عن سياقه- كاشفاً لما وصلت إليه الأحوال فى المجتمع المصرى!!

٣- ما بين صرخات النقد التى يصدرها البعض على طريقة استخراج التمثال.. تستطيع أن تشم رائحة التربص بشدة!

فبينما تتحول صفحات التواصل الاجتماعى لساحات حرب بين مؤيد ومعارض.. ينسى هؤلاء أنفسهم تصريحاتهم يومياً بأن الوطن لم يعد يعنيهم فى شىء!

إن من يدعون الخوف والغيرة على آثارنا المصرية القديمة.. هم أنفسهم من يتهربون من دفع الضرائب يومياً.. بل ويتمنون الهجرة فى كل صباح فى «شيزوفرينيا» مثيرة للشغف! لقد أصبحت الوطنية لديهم تقاس بحجم النقد الذى يقدمونه للوطن.. وليس بقدر الواجب الذى ينبغى عليهم أن يؤدوه!!

٤- يخرج مسئولو الآثار مفسرين فى كل مكان أن الأمر قد تم بحرفية ومهارة.. وأن الرأس كان مكسوراً من عصور سحيقة سابقة.. ولكن لن يسمعهم من لا يريدون أن يسمعوا! لا أعتقد أن الأمر كان يستحق التبرير والتفسير.. والاستشهاد بخبراء الآثار المصريين مثل العالم زاهى حواس.. أو حتى الاستناد إلى وجود خبراء ألمان وقت استخراج التمثال.. لقد أصبح الأمر واضحاً.. فالفئة الرافضة للنظام تتصيد كل شاردة لتحاول أن تثبت وجهة نظرها فى الحال العام بأكمله.. فإذا كانت البعثة البحثية قد استعملت اللودر فهو خطأ.. ليس لأن استعماله غير قياسى بمعايير علماء الآثار.. وإنما فقط لأنهم قد استعملوه! الأمر لم يعد نقداً لصورة أو لحدث.. أو حتى موقف معين بقدر ما أصبح نقداً لنظام بأكمله.. يحاول البعض التعبير عن رفضه له بانتقاد كل ما يخرج منه.. حتى وإن كان صحيحاً ومنطقياً.. بل ومحموداً فى بعض الأوقات!

ليست الغيرة على الوطن هى ما يحركهم.. وإنما فقط هو الحقد على النظام!

٥- ما بين صرخات النقد وهتافات التبرير.. يقف من هو مثلى حائراً يبحث عن الحقيقة فلا يجدها.. ربما كان استخراج التمثال قد تم بحرفية حقاً -وهو ما أرجحه بعد شهادة الدكتور زاهى حواس- وربما حدث خطأ ما أثناء الحفر والكشف عن رأس التمثال.. لا أعرف بالفعل.. لن يعرف أحد أبداً.. وسيظل الجدل يدور بين طرفين يرفض أحدهما الاستماع للآخر.. حتى تختفى الحقيقة بين أحداث الغد.. الذى سيأتى بحدث يطمسها.. ويفتح الباب لانتقادات جديدة.. لقد تحول المجتمع كله إلى مجموعة من العاطلين الذين يبحثون عما يزجى أوقات فراغهم فى المقاهى وعلى صفحات التواصل الاجتماعى.. دون حتى أن يتحرى أحد مصادر معلوماته.. أو يجتهد قليلاً فى البحث عن خبير ليستمع إليه! الأمر سيتكرر يومياً.. وسيختفى تمثال المطرية ليظهر غيره.. ولكننى سأظل أذكره جيداً.. وأذكر أننى مررت من فوقه مراراً.. وربما تسببت فى كسر رأسه.. بقدمى الشابة الفتية وقتها!!