الفقراء يسألون: من أفقرهم؟

سحر الجعارة

سحر الجعارة

كاتب صحفي

هل نحن فقراء لأننا شعب «استهلاكى» لا يجيد «ثقافة الطعام»، نرمى نصف راتبنا فى صندوق القمامة فى هيئة خبز وفاكهة وخضراوات وبقايا الطعام، وندفع باقى الراتب أقساطاً شهرية لحياة الرفاهية التى جعلتنا أعضاء فى نوادى الطبقة المخملية، مما يفرض علينا شراء سيارة جديدة وملابس آخر موضة لزوم «الوجاهة الاجتماعية»؟!.

أم أننا فقراء لأن مصر تعرضت للنهب والسلب على مدار الأزمنة، ولأننا نسدد فاتورة «الفساد» و«الاستبداد»، ندفع ضرائبنا «من المنبع»، ونشترى الوقود من نفس محطة الوقود التى يشترى منها أصحاب المرسيدس والـBMW.. لكن الفارق أننا نتحمل «نيابة عنهم» قيمة ما تبقى من دعم للوقود، ونسدد لهم ثمن جرائم الطرق المفخخة بالمطبات، رغم أن أحدهم قد يكون تربّح ملايين الجنيهات من «مناقصة» توريد مواد لرصف الطريق أو بناء الكوبرى أو حتى رصفه!!.

إحنا «الناس اللى تحت»، من العشوائيات إلى الطبقى الوسطى التى سقطت فى بئر العوز والحاجة، نحن خدام الطبقة الحاكمة ورجال الدولة ورجال الأعمال وشلل المنافقين والمنتفعين من كل نظام.. نحن ضحايا «الناس اللى فوق» ليس من حقنا أن نصرخ: كيف يشترى رئيس مجلس النواب الدكتور «على عبدالعال» سيارات بـ18 مليون جنيه لحراسته هو والوكيلين، ويجهز قانوناً لرفع رواتب ومعاشات الوزراء والمحافظين فى بلد عملته الوطنية لم تعد تصلح إلا لعمل «طيارات ورق»؟!.

نحن أغلبية الشعب «اللى ماسك فى ديل الحكومة» ينتظر العلاوة الدورية وحكومته تلعن طمعه وجشعه وكسله وتواكله.. نحن من يتلاعب بنا التجار ويتآمر علينا أهل الشر، ويحاصرنا فيروس «C»، وتسقط الأمطار على بعضنا فى منازل سقفها من خشب، ويغرق البعض الآخر فى نوبة سيول أو «طفح مجارى».

نحن الطبقة المأزومة المنهارة، التى تقدم أبناءها للتجنيد إيماناً بقدسية تراب البلد.. فمن أنتم؟

كم نائب فى مجلس النواب وكم مليونير وكم «مسئول» فى منصب وزير وبمميزاته تهربوا من التجنيد.. كم رجل أعمال أدار ظهره لصندوق «تحيا مصر»، وقاطع البلد الذى صنعه، (لم يصبّح على المحروسة بجنيه)، بينما أنفق الملايين على أشباه رجال يمثلونه فى الحياة الحزبية والنيابية ليكونوا صوته الذى يُخمد أى صوت يطالب بضريبة تصاعدية على الأرباح أو قوانين تحمى العمال من لعنة العمل بالقطاع الخاص.

نحن «الثورة» ضد الفساد السياسى، الذى لا يوجد قانون يعاقب عليه، سجلنا سقوط «مبارك» ورجاله بدماء الشهداء من صفوفنا، لكن الإعلام المضاد لكل ما هو برىء ونظيف فى هذا البلد شوه صورتنا، حوّلنا إلى دمى تلاعبت بها أجهزة المخابرات العالمية، وأصبحنا طرفاً فى مؤامرة وهمية.. بينما المؤامرة الحقيقية كانت رجوع رموز «مبارك» لصدارة المشهد السياسى، والإبقاء على قوى الفساد فى دوائر الحكم الاقتصادى- السياسى للبلد.

نحن مَن راهنّا على الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، وطالبناه بالترشح للرئاسة، ووقفنا ساعات فى طوابير الانتخابات والاستفتاءات بحثاً عن «دولة العدالة».. نحن من نستجيب من أول إشارة، فنفوض «القائد» لحماية مصر من الإرهاب، يقول لنا الرئيس: «اصبروا»، نصبر.. «اسمعوا لى ولا تتحدثوا مرة ثانية» نتحول إلى ملايين الآذان الصاغية.. فهل يسمع الرئيس أنين أولادنا؟

بعض أبناء هذا البلد يبيع كليته أو جزءاً من كبده ليعالج ابنه.. لكنه لا يجد الدواء فى الصيدليات، حتى الدواء أصبح مغشوشاً!.

المصرى -يا سيادة الرئيس- هو أرخص سلعة فى الأسواق، يتاجر بلحمه ويسلم جسده لمافيا «تجارة الأعضاء» بدلاً من أن يسلم شرفه لشبكات «الرقيق الأبيض».. وحتى فى سوق «تجارة الأعضاء» يضيع حقه بين السماسرة والعملاء، ويتفرق دمه بين من أفقروه ومن تاجروا فيه.

نحن لسنا ضحايا «أهل الشر» ولا «جشع التجار»، نحن ضحايا السياسات العشوائية، وقرارات الحكومة الغبية، والإهمال الإدارى وانعدام الخيال والرؤية.. نحن ضحايا حكامنا.

«محدش قالكوا إننا فقرا قوى؟!».. جملة قاتلة، حين قالها الرئيس تذكّر الناس على الفور عبارة: «هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه»، التى قالها الرئيس فى بيان 3 يوليو عقب نجاح الشعب فى الإطاحة بالإخوان!

عفواً ياريس، مصر ليست فقيرة بكل ثرواتها الطبيعية والبشرية، بكل بؤسها وأطفالها الذين يمشون فى الوحل للوصول إلى مدارسهم لا يسترهم إلا كرامتهم وقطع ثياب مهللة.. إن لمصر وجهين: وجهاً يشترى قميص «ميسى» بالملايين، ويدفع رواتب خيالية لإعلاميين يخدمون على «أعماله»، ويحتكر القلاع الصناعية والمدن السياحية ويتنقل بطائرات خاصة ويخوت فارهة، ويتبرع لمصر على سبيل «الدعاية المباشرة».. ووجهاً آخر لا يملك مقدم شقة الإسكان الاجتماعى، ولا قسط فدان بالصحراء، يتفرج على أعمال الإنشاء فى «العاصمة الإدارية الجديدة» كما يتفرج على «برج الخليفة بدبى»!.. خلفه مقطوع وحيله مهدود وحلمه مبتور وإنسانيته مهدرة، يقاطع «اللحوم» لأنه لا يملك ثمنها، و«بيشيل فيشة الكهرباء» لأن فاتورتها صاعقة، وينتظر الفرج وفى قلبه إيمان بأن مصر غنية لكنها منهوبة!.

الوجه الأخير هو الذى يصافحه الرئيس أثناء نقله من العشوائيات إلى أماكن آدمية ولا أقول حضارية، لكن الرئيس لا يعرف أنه «مواطن عشوائى» سيخرج من «المنزل المجانى» ليعمل بالنشل أو التسول أو أى مهنة غير شريفة تماماً مثل «المعلم» الذى يعطى دروساً خصوصية.

العبرة ليست بالمنزل، إنها بـ«الدخل» الذى أصبح فى حده الأدنى لا يصل إلى 80 دولاراً!.. ومحددات الدخل ليست بأطباق الستالايت ولا التكييفات ولا السيارات القسط.. إنها بالغذاء والكساء والدواء.

فقراء مصر يسألون السيد الرئيس: من أفقرهم؟؟.. وأتمنى أن يتحول السؤال إلى «تكليف» لوزارة الرئيس وأجهزته الرقابية.. وشعار لمحاربة فساد «الناس اللى فوق».