سارق الروايات
جاءت الذكرى فراشةً ترفرف، حطت على جبيني، فاسترجعت ذلك اليوم، منذ عشرين عامًا، على جانب من ملعب الكرة في مدرستي الابتدائية (عبد السلام عارف).. التراب يتطاير، وأجلس مع الحقائب أحرسها لزملائي، لم تكن تستهويني كرة القدم.. ليتها استهوتني؛ فبعد ذلك اليوم بعشرين عامًا صرت في وزن رَجُلٍ ونصف!!
***
أتطلع إلى أقدامهم وهي تتلعثم في الكرة، أسعد بأن أحمد صديقي يحسن التسديد.. يركلها بمهارة وخفَّة، يساعده صغر حجمه على المرور بين أولاد أكبر منه بعامين.. بعد هذا اليوم بخمس سنوات كان آخر لقاء بيننا.. مضى كلانا في طريقه، وابتلعنا فم الحياة!
***
كانت حقيبته منتفِخةً أكثر من بقية الزملاء، وزّعت بصري بالتساوي عليه في الملعب، وعلى حقيبته التي تدعوني لهتك حرمتها.. استجبتُ لها، فانسابت منها قصص «ميكي جيب» تكفي صندوقًا صغيرًا، اللعين من أين أتى بها.. ولماذا؟! ارتعشت يداي وزاد نبضي.. يكاد يغادرني قلبي.. مددت يدي إلى أولها، كانت رائعة.. الرسوم مبتسمة لي، وعلى غلافها كلمة لها سحر عجيب «عدد خاص».. بيتي سبعة أفراد، لم يكن لكلمة (خاص) معنى معتاد!
***
زُرْتُه بعد أن انتقل كلانا إلى مدرسة أقرب في مربعه السكني.. في جلبابه الأبيض كان منظره مضحكًا، هزيلًا معروقًا.. احتسينا الشاي الذي أعدته أمه، وحين أذَّن العصر دعاني للصلاة معه.. نزلت إلى المسجد الذي لا أدخله إلا يوم الجمعة.. صلَّيت فإذا بنشوة ترتديني.. جلسنا معًا نتحدث، واختلفنا في تفسير آية.. أطل الملتحي الباسم.. حدثنا عن الجنة، وعرفت منه محمد حسان، أعطاني شريطه «الحصاد الحلو والمرّ»، فاستمعت إليه عشر مرات في البيت.. وسط تهكم أبي وإخوتي.. كنت مثل نوح عليه السلام.. أبني فلكًا، وأنتظر الطوفان..
***
ارتعشت يداي وهما تجمعان كل القصص من الحقيبة.. أخفيت بعضها في سروالي، وتحت الجاكيت الذي تصر أمي على إلباسي إياه بعد أن حمل الشتاء عصاه ورحل، احتضنتُ بعضها، ونظرتُ إليه فوجدته يلوم زميلًا ركل ساقه، اختبأتُ وراء العارضة.. وقلبي يدق مثل رشاش جندي مذعور، والشارع يبتعد بخزي كلما اقتربت، وباب المدرسة المفتوح يمد يده لي أن أقف مكاني، كانت تدوِّي في أذني: سارق.. سارق.. فأخذت أنفاسي، وجريت وأنا أنظر إلى الخلف.. كانت أول سرقة أدبية!
***
عشر سنوات مضت، فعرفت من هو عبد السلام عارف، ولماذا سُحل في العراق.. وتوطدت علاقتي بالقتيل، وتذكرت أنني أعَدْتُ بعض القصص لصديقي، ولم يتنبه إلى غياب الباقي.. هكذا ظننتُ، حتى حادثني بعد أن سقطت بعض أوراق النتيجة، قائلًا: (عارف إنك ضربت على أربع قصص.. سبتهم لك بمزاجي).
***
نزلنا معًا نبيع «جداول حصص» كانت جاءته هدية، الجدول بشلن (خمسة قروش) جبنا شوارع مدينتنا معًا، واشترى منا طفلان، يا لروعة البيع!
شربنا كوبين من ماء حمص الشام.. نضحك.. باغتنا متجهم شارد الذهن، اختطَفَه من أمامي.. تمتم أحمد بتعجب: خالي؟! رفعه الضخم إلى أعلى: ياللا على البيت يا أحمد، أبوك الله يرحمه!
***
مُغلِقًا الباب الحديد للعمارة خوفًا من بلطجية مبارك والعادلي.. زوجتي تعد شطائر لطفلينا.. عيناي معلَّقتان على مشجب الشاشة الذهبية، وجدتُه في حركة سريعة للكاميرا، مرت خمسة عشر عامًا، وهو كما هو، ازداد هزالًا، ونبت شعر لحيته، واتخذ جلبابًا أطول، مضرجًا في دمائه، كان اسمه يملأ الشاشة بجواره كلمة «شهيد»..!
***
تغيرت.. لم أعد أذهب للمسجد كثيرًا، ولم يعد يطربني محمد حسان، وجدت صوته أعلى من اللازم.. ولم أعد أتفرج على غيري يلعب الكرة.. ولم أعد أبحث في تاريخ العراق.. شيئان فحسب لم يتغيرا
ما زلتُ أسعد بسرقة الكتب والروايات..
وما زلتُ أنتظر أن ألتقيه صدفة في وسط الشارع لأعيد له باقي القصص المسروقة!