«حماس» واختبارات الجغرافيا السياسية

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

فى كل يوم تقريباً تظهر ملامح تحالفات سياسية جديدة فى الشرق الأوسط ككل، وفى القلب العالم العربى الذى يحظى بالنصيب الأكبر من تلك التحالفات، بعضها فى طور التأسيس، وبعضها الآخر قام منذ عامين ويتعرض لاختبارات هائلة فى ضوء التطورات السريعة والمفاجئة التى تحدث، كما هو الحال فى سوريا والعراق. والغالب أن اعتبارات الجغرافيا السياسية عادت مرة أخرى لتفرض نفسها على تحركات الأطراف العربية جميعاً، بدلاً من عوامل التقارب الأيديولوجى التى فرضت نفسها بعد العام 2011. فالجغرافيا عامل أساسى مادى ملموس لا يمكن تغييره، وقد يحدث لطرف معين بعض الإمكانات تمنحه فرصة الالتفاف على اعتبارات وحتميات العامل الجغرافى بأبعاده السياسية والإنسانية والاقتصادية، ولكنه يعود بعد فترة ويجد أن هذا الالتفاف مكلف وليس له عائد حقيقى، ومن ثم يعيد التفكير ويتجه بقوة نحو أولوية الجغرافيا على ما عداها.

فى الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ ستة أشهر تكرر الحديث عن بداية تفاهمات مصرية مع حركة حماس فى غزة، من شأنها أن تنهى فترة التوتر بين القاهرة وغزة، وتفتح باباً أمام علاقات عقلانية مختلفة عن السنوات الخمس الأخيرة. والحقيقة أن هذا الحديث لم يكن من فراغ، بل أيدته شواهد عديدة جسدت حاجة الطرفين إلى تجاوز الخلافات وبناء علاقات طبيعية تراعى احتياجات كل طرف على حدة، كما تراعى بناء مصالح مشتركة لها أسس موجودة بالفعل ولها جذور يصعب اقتلاعها، فمصر ليست بحاجة لأن تكون محاطة بتوترات وتهديدات من كل اتجاه، ولكنها بحاجة إلى تفكيك هذه التوترات والتخلص من هذه التهديدات، وهو ما يستدعى التعاون مع الطرف الآخر على الحدود وفق أسس واضحة لا لبس فيها.

التعاون مع الطرف الآخر على الحدود له أيضاً أسسه ومعاييره، فهو لا يتم أبداً من طرف واحد، وإذا كانت مصر أخذت على عاتقها مواجهة حركات الإرهاب فى شمال سيناء بمفردها طوال العامين والنصف الماضيين، فإن الأمر يكتمل إذا قامت حماس بما يجب أن تقوم به، وهى تعرف المطلوب منها جيداً، لقد تجولت حماس المسيطرة فعلياً على قطاع غزة منذ العام 2007، بين أكثر من طرف عربى وإقليمى ظناً منها أن أحدهم أو جميعهم قد يحلون محل مصر من حيث النفوذ المعنوى والسياسى ولكن بدون جدوى. ومعروف أن علاقة حماس بإيران وتركيا كانت موجهة أساساً ضد مصر ودورها فى القضية الفلسطينية، استناداً لمبررات واهية أن هذين البلدين يمكنهما أن يشكلا ثقلاً سياسياً يدعم حركة حماس واستقلالها بغزة كمرحلة أولى ثم السيطرة على الضفة الغربية فى مرحلة تالية، إضافة إلى كونهما مصدرين محتملين لدعم مالى يفيد سلطة الحركة فى الهيمنة أكثر على مصير القضية الفلسطينية، فضلاً عن كون إيران كمصدر للسلاح والخبرات فى صنع صواريخ وذخائر تدعم القدرات العسكرية للحركة. وكان للتحولات التى شهدتها مصر وتحديداً حكم الإخوان لمدة عام تأثير فى توجهات الحركة نحو مصر الدولة بمؤسساتها وتقاليدها الخاصة بالقضية الفلسطينية، وفى هذا العام الكئيب بدا لحركة حماس أن هناك فرصة كبيرة ليس لاستمرار السيطرة على غزة وحسب، بل أيضاً إنشاء وطن فلسطينى بديل، يضم غزة وأجزاء من سيناء المصرية، ويكون تحت هيمنة الحركة مدعومة بنفوذ الجماعة الأم فى مصر.

تغيرت الأحوال جذرياً، فقد انتهى عام الإخوان فى مصر غير مأسوف عليه، لكن حماس لم ترض بإرادة الشعب المصرى فى 30 يونيو وظلت لفترة متوهمة أن الأمور فى مصر قد تعود مرة أخرى إلى الوراء، وعبرت عن ذلك بتسهيلات تسليحية وتدريبية لعناصر من إرهابيى داعش والحركات الجهادية التى توطنت لفترة فى أجزاء من شمال سيناء. وليس بالضرورة أن تكون تلك التسهيلات من خلال تدخل مباشر من حركة حماس، بل غالباً كانت من خلال اتباع سياسة إغماض العين على حركة الأنفاق وما يتم فيها من تهريب الأفراد والسلاح بين القطاع وشمال سيناء، وساهم سوء التقدير إلى تراجع العلاقة بين حماس وإيران بشدة، فقد وقفت الحركة مع الجماعات المعارضة المسلحة لنظام الرئيس السورى بشار الأسد، وهو أمر أغضب إيران التى استثمرت الكثير فى حماية نظام الأسد، ومن ثم توقف الدعم الإيرانى السخى للحركة، ولم تستطع تركيا أو قطر أو دول خليجية أخرى تعويض الدعم الإيرانى للحركة، ثم جاءت التحركات التركية فى الانفتاح على إسرائيل والضرب بعرض الحائط كل الوعود التى أطلقها الرئيس التركى أردوغان بدعم غزة واستقلالها وتنميتها تحت سلطة حماس، ليوجه ضربة قاصمة لسياسات حماس التى تصورت أنها ستمثل البديل لعلاقة طبيعية مع مصر.

الصورة بهذا الشكل لم تكن توفر لقيادة حماس سوى خيار وحيد وهو العودة إلى حتميات الجغرافيا السياسية، وتلك بدورها تفرض أمراً واحداً لا بديل له، وهو العودة إلى علاقات طبيعية مع القاهرة، علاقات تؤدى إلى معالجة كل المواقف والسياسات التى أضرت بمصر وبأمنها، والأخذ بنصائح القاهرة بجدية أكبر بشأن المصالحة الفلسطينية الشاملة، واتخاذ الإجراءات التى من شأنها أن تعيد الثقة مرة أخرى بين مصر والحركة استناداً إلى ضرورات الواقعية السياسية من جانب وتأمين المصالح المصرية من جانب آخر.

مثل هذا التطور حال حدوثه يعد أكبر بكثير من مجرد صفقة سياسية أمنية تؤمن نسبياً احتياجات القطاع من السلع الضرورية وفتح معبر رفح بصورة أكثر انتظاماً، مقابل اتخاذ الحركة بعض الإجراءات الأمنية التى تؤدى إلى ضبط أكبر على الحدود المشتركة بين مصر والقطاع، التى لا تزيد على 14 كيلومتراً فقط. صحيح قد يأخذ الطرفان بعض الإجراءات التى تساعد على تأكيد بداية مرحلة جديدة، ولكنها فى النهاية لن تكون كافية وحدها، وفى شق منها ستكون بمثابة نوع من الاختبار لتأكيدات الحركة بشأن مراجعة مواقفها التى أضرت مصر كثيراً فى السابق، ومع تأكد القاهرة من وجود نهج جديد لحماس، فقد تتطور المواقف أكثر ناحية تلبية مزيد من متطلبات إنهاء المعاناة القاسية التى فرضت نفسها على أهالى القطاع بغض النظر عن توجهاتهم الفكرية أو السياسية، ففى أكثر اللحظات التى أخطأت فيها حماس لم ترد مصر أبداً بالتمييز بين الفلسطينيين، بل واجهت بحسم الأصوات التى حاولت أن تضع حماس فى قائمة الجماعات الإرهابية.