الطريق إلى حلب: «داعش» عن يمينك و«النصرة» عن يسارك.. وحواجز الجيش كل 70 متراً

كتب: سوريا - أسامة خالد

الطريق إلى حلب: «داعش» عن يمينك و«النصرة» عن يسارك.. وحواجز الجيش كل 70 متراً

الطريق إلى حلب: «داعش» عن يمينك و«النصرة» عن يسارك.. وحواجز الجيش كل 70 متراً

هدأ السائق من سرعة سيارته، ثم فتح الشباك، وبطريقة روتينية قدم بطاقة هويته، ورخص السيارة، وتصريح المرور إلى الجندى على الحاجز الأمنى، الذى استوقفنا بعد مسافة تقل عن 70 متراً من الحاجز السابق، وهى نفس المسافة التى قطعناها بين عشرات الحواجز التالية، وما إن استعاد السائق أوراقه، حتى التفت تجاهى بهدوء، قائلاً «انظر إلى اليمين، هل ترى تلك الضيعة؟ هناك تسيطر داعش، هل ترى تلك التبة بجوارها؟ هناك تقبع قواتهم»، أكمل السائق لقمان رحلتنا من العاصمة السورية دمشق إلى مدينة حلب، التى كانت قبل أيام قليلة فى قلب المعارك بين الجيش العربى السورى والتنظيمات الإرهابية الأخرى، وبعد لحظات من الصمت، التى أعقبت تبرمى من كثرة الحواجز الأمنية، حيث لم نكن قد تجاوزنا «ريف السلامية»، الواقعة فى منتصف المسافة إلى حلب، بينما مر علينا أكثر من 4 ساعات بسبب الحواجز، طلب منى السائق النظر إلى جهة اليسار، «خلف هذه الأشجار على مسافة أقل من 4 كيلومترات تتمركز جبهة النصرة»، فى بداية الطريق من دمشق إلى حلب، والبالغ طوله 420 كيلومتراً، قطعناها لاحقاً فى 9 ساعات كاملة، بسبب الأكمنة الأمنية، وتحويلات الطرق للهروب من مناطق نفوذ «داعش» و«جبهة النصرة» وعشرات الفصائل والميليشيات الإرهابية الأخرى المنتشرة، قال لقمان «الطريق خطير، هناك مناطق يسيطر المسلحون على جانبى الطريق فيها، وكثيراً ما تقع اشتباكات تجبر الجيش على إغلاق الطريق، لحين استعادة السيطرة عليه»، وأضاف «فى الغالب تغلق قوات الأمن هذا الطريق ليلاً، بسبب مهاجمة عناصر مسلحة للسيارات، وأسرها للمارة عليه، ولا يتم فتحه إلى فى الصباح، بعد التأكد من خلوه تماماً من أى عناصر مسلحة، وأنه غير ملغم»، ثم أكمل طريقه فى صمت، وبعد كيلومترات قليلة قطعناها من دمشق العاصمة، دخلنا إلى محافظة ريف دمشق، التى تخضع غالبية أجزائها لسيطرة عناصر مسلحة تابعة لتنظيمات عدة، حيث يقتسمها أكثر من 27 تنظيماً مسلحاً، وحولوها من جنة على الأرض إلى خرابة، ففى كل بناية آثار قصف، وفى كل منطقة مشردون وقتلى.

{long_qoute_1}

«لم نعد نعرف عدد التنظيمات المسلحة من كثرتها، ففى كل يوم نسمع اسماً جديداً لفصيل غريب، وهنا ستجد كل جنسيات الدنيا ترفع سيوفها علينا لتقيم الدين».. قالها السائق لقمان منفعلاً، ثم أكمل متسائلاً «لماذا نحن؟! لماذا لا يعودون إلى بلادهم ليقيموا الدين هناك»، وذلك فى إشارة إلى 350 ألف أجنبى عبروا الحدود التركية - السورية على مدار السنوات الست الماضية، لينضموا إلى عشرات التنظيمات الإرهابية المدعومة خارجياً.

كل اللافتات التى لاحظتها فى بداية الطريق من دمشق إلى حلب كانت تستدعى لرأسى المشاهد التى تعرضت لها بلاد الشام، طوال السنوات الماضية، فعلى يمين الطريق كانت اللافتة تشير إلى حمص وبيروت، وبعدها بأمتار لافتة أخرى تشير إلى الاتجاه للعراق، ولافتة أخرى إلى «تدمر»، المدينة التاريخية التى نهب المخربون آثارها، ودمروا تراثها الإنسانى بطريقة كانت شاهداً على همجية عناصر «داعش»، كانت المشاهد التليفزيونية لتدمير آثار «تدمر» تتداعى فى عقلى، قطع لقمان الصمت، فيما نفرت عروق يديه الممسكة بمقود السيارة، وتسمرت عيناه على الطريق، «داعش ألقت القبض علىَّ مرتين، وكانت على وشك ذبحى، المرة الأولى كنا فى بداية حصار حلب، عندما استوقفتنى عناصرها، واستولت على بنزين السيارة، لأن دخول البنزين أو الطعام إلى حلب ممنوع، وبعد كثير من الإهانة والضرب، تركونى أمر بأقل كمية ممكنة من البنزين»، وأضاف «المرة الثانية كانت منذ عام تقريباً، عندما كان الدواعش يسيطرون على المدينة، واستوقفنى مسلحو التنظيم، وقال لى قائدهم، وهو تونسى الجنسية: أنت كافر وسنذبحك، ثم أمر بأن أنزل من السيارة، ووضعونى بالفعل فى وضع الذبح، وعندها سألتهم لماذا أنا كافر؟ فأنا أذهب إلى مسجد حارتنا للصلاة، فلماذا أنا كافر؟! فقال لى: لأنك موالٍ للنظام الكافر، فصرخت تحت السكين بأننى أكره النظام، وبعد ساعات من الإذلال، تركونى دون أى نقود»، صمت الرجل الأربعينى قليلاً، تاركاً الدموع تنهمر من عينيه بغزارة، قبل أن يمسح ما تبقى منها، وقال بعدما اتسعت عيناه، «كانت الحياة مليئة بالرعب، وكنا نحيا حياة صعبة فى حلب، ففى البداية حاصروا المدينة لمدة عام، ثم عشنا فى عدة دويلات، حيث أصبحت كل حارة دولة، هذه لتنظيم النصرة، وهذه لأحرار الشام، وهذه لجماعة استقيموا، وهذه حارة تحارب تلك، والجميع كان يقتل الشعب، لأن كل حارة كانت دولة مستقلة، والتنقل بينها شديد الصعوبة، وأحياناً شبه مستحيل»، وبعد لحظات ابتلع خلالها ريقه، أكمل «نحن من تضرر من هذه الحرب، ونحن من عانى، فالجيش كان فى الجهة الأخرى، والقذائف كانت تسقط على بيوتنا نحن»، عند حاجز «القطيفة» على الطريق الدولى بريف دمشق كان لا بد أن نسجل أسماءنا لدى قوات الأمن، حتى يتأكد شرطى أننا غير مطلوبين أمنياً، ولم نكن يوماً من المسلحين، بالكشف على أسمائنا عن طريق جهاز كمبيوتر، وعندها قالت مرافقتنا الحكومية رنا، التى اشترطت وزارة الإعلام أن أتحرك بصحبتها حتى تصرح لنا بالذهاب إلى حلب «على هذا الحاجز تم ضبط الكثير من المسلحين أثناء محاولتهم التسلل إلى داخل مدننا».

من بعيد لامست السحب قمم الجبال البيضاء، فيما جاهدت أشعة الشمس لتتسلل من بين السحب الكثيفة لتمنحنا الدفء، مع انخفاض درجات الحرارة إلى 3 درجات مئوية، وهنا قالت رنا «نحن فى تانيا، أبرد مناطق الشام، ولو جئت منذ أسبوعين لما استطعت المرور بسبب تساقط الثلوج، التى كانت تغطى قمم جبال القلمون، الاسم المرتبط بمعارك ضارية شهيرة دارت فى هذه المناطق، وما زالت آثارها باقية، فهذه سيارة محروقة، وهذا أوتوبيس متفحم، وهذه عشرات الحفر التى تركتها القذائف على جانب الطريق»، حفرت مدن تدمر، وحماة، وحمص، واللاذقية، أسماءها فى دفاتر الاشتباكات، وكتب الإرهاب حروفاً سوداء عليها، ستظل باقية وعالقة فى أذهان الجميع، وستبقى آثاره شاهدة على ما جرى، عند مدخل مدينة حمص كان المشهد يختلف كثيراً عن باقى الطريق، حيث انتشرت أعداد كبيرة من الدبابات، وبجوار الطريق وقفت سيارات سريعة تحمل أسلحة خفيفة ومتوسطة، فيما أشارت صور ركام المنازل إلى الحرب التى دارت هنا، وقال السائق مبرراً آثار الدمار البادية فى المكان، «جاءت الكثير من المفخخات إلى هذه المنطقة، ومات الكثير من الشباب على هذا الحاجز».

من بعيد، بدت حمص كمدينة ريفية بسيطة، تتكون من منازل لا يزيد ارتفاعها على 3 أدوار، ما يجعلها أقرب إلى المدن الريفية المنتشرة بطول مصر وعرضها، وحسب السائق، كانت حمص مخزن الغذاء الرئيسى لسوريا كلها، نظراً لشهرتها بالزراعة، ومناخها المعتدل، وأمطارها التى تهطل على مدار العام.

وبعد السماح لنا بعبور الحاجز الأمنى، تجاوزنا طريق الزهراء الرئيسى فى المدينة، ثم انعطفنا يميناً نحو طريق المستقبل، وهنا توقف الزمن، واسودت الصورة تماماً، كأنما عادت بنا آلة الزمن إلى العصور الحجرية، أو كأنما دخلنا مدينة أشباح، فأحياء كاملة تحولت إلى ركام، والمنازل مهدمة، وشوارع كاملة لم يعد يسكنها سوى الأشباح، العديد من الشوارع التى مررنا بها لم يكن بها سوانا، فيما كانت الدماء تغطى مساحات شاسعة من الطريق، بجانب بقايا حياة تشرح ما جرى، فهذه صورة عائلية معلقة على حائط منزل مهدم لم يبق سواه فى البناية المهدمة عن آخرها، ذهبت الأسرة كلها تحت القصف وما تبقى منهم غير صورة على جدران نصفه متهدم، وعندما طلبت من مرافقتنا الحكومية «رانا» أن نتوقف لالتقاط بعض الصور للخراب فى المدينة، ردت «انتظر، هناك الكثير من الخراب، وهناك ما هو أصعب لتراه وتصوره»، ومع مواصلة الطريق، بدأت سرعة السيارة تهدأ، والحواجز تتزايد، وقوات الجيش تنتشر بكثافة أكبر، فالآليات العسكرية كانت تملأ جانبى الطريق، وجنودها فى حالة استنفار دائم، وعندما نظرت إلى السائق مستفهماً، قال «هذه هى المرحلة الأخطر من الطريق، فنحن نقترب الآن من أماكن انتشار المسلحين، وسنمر فى مناطق تحت سيطرة داعش»، وبعدما أنهى حديثه التفت إلى أحد الجنود، مقدماً له تصاريح المرور، وموافقات الجهات الأمنية على السماح لنا بالمرور إلى حلب، وبعد المرور من حمص توجهنا إلى طريق حماة، وقالت رانا «كان يجب أن نسير مباشرة من حمص إلى حلب، لكن الطريق المباشر تسيطر عليه جبهة النصرة، لذلك علينا أن نأخذ طريقاً التفافياً، حيث سنتجه إلى طريق الرقة، التى كانت مقر قيادة تنظيم داعش، وسنمر على طريق الرصافة، وهى أيضاً تحت سيطرة التنظيم، لكن الجيش يؤمن الطريق بصورة كبيرة، وبعد ذلك سنعود إلى طريق حلب مرة أخرى»، وبعد دقائق من الصمت، عادت المرافقة الحكومية لتشرح «من جهة اليسار، تبعد عنا قوات جبهة النصرة مسافة أقل من 6 كيلومترات»، وقتها كنا قد وصلنا إلى ريف السلامية، حيث تحول الطريق فجأة إلى ثكنة عسكرية، ما بررته رانا قائلة إن المنطقة من «ريف السلامية» إلى «حماة» تسيطر عليها الفصائل المسلحة، وإن كانت الغلبة لعناصر داعش وجبهة النصرة.

وقبل الوصول إلى حلب بـ70 كيلومتراً أشار السائق نحو اليمين شارحاً «انظر، هناك توجد قوات داعش على مسافة أقل من 4 كيلومترات»، ثم أكملنا الطريق، لنصل إلى حاجز خناصر الأمنى بعد مسافة لم تتجاوز الـ10 كيلومترات، وهناك بدت المبانى متهدمة، وآثار الحرائق فى كل مكان، وكأن حرباً دارت هنا منذ فترة وجيزة، وشرح السائق الموقف «قوات داعش هاجمت قوات الجيش هنا بضراوة.

وأخيراً وصلت السيارة إلى حلب، بعد 9 ساعات كاملة، لتبدأ صورة أخرى أكثر بشاعة من صور الحرب، فهنا لاحت لنا صور الرئيس بشار فى كل مكان، وشعارات حزب الله اللبنانى على الحوائط، وعند مدخل مخيم النيروب الفلسطينى.


مواضيع متعلقة