«ترامب وبوتين» وفخ القرصنة والتضليل

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

تراجع الرئيس المنتخب ترامب إلى الوراء قليلاً، اعترف بعد إنكار بوجود قرصنة روسية للحملة الانتخابية للحزب الديمقراطى وفقاً لما زعمته تقارير مجلس الاستخبارات الأمريكية، ساعدت على فوز ترامب نفسه وهزيمة منافسته هيلارى كلينتون، التراجع له أسبابه، فثمة هجمة شرسة على الرجل من اتجاهات عدة، ليست فقط من الديمقراطيين ومناصريهم، بل من الجمهوريين أيضاً، الذين ينكرون على ترامب أن يكون رمزاً للحزب الجمهورى وهو لا يعدو أن يكون عضواً متطفلاً على المؤسسة السياسية العسكرية الحاكمة فى الظاهر والباطن على السواء.

اعتراف ترامب قد يخفف جزئياً من ألاعيب أجهزة الاستخبارات ضده شخصياً، وقد يفتح باباً لتهدئة المخاوف التى أججها الرئيس المنتهية ولايته أوباما لدى كبار مسئولى الأجهزة الاستخبارية مدعياً بأن ترامب لديه خطط لتغييرات شاملة فى بنية هذه الأجهزة وطريقة عملها، مما يهدد مصائر كل القائمين عليها. لكن التهدئة الكاملة بين ترامب وهذه الأجهزة ليست مؤكدة لأسباب عدة، أبرزها أن ترامب يؤمن فى داخله أن هذه الأجهزة تتلاعب بالحقائق وأنها كثيراً ما تكذب وتختلق أموراً لتخدم سياسات معينة ليست بالضرورة فى صالح الولايات المتحدة. ويقابل ذلك أن كبار مسئولى الأجهزة الاستخبارية يرون فى ترامب شخصاً جاهلاً بمتطلبات إدارة دولة عظمى كالولايات المتحدة، وأنه لا يدرك حجم المخاطر الأمنية التى قد يتسبب فيها إذا سار فى طريقه نحو تعزيز علاقات أمريكا مع روسيا ومع بوتين شخصياً، فى حين أن روسيا وفقاً لقناعات هؤلاء هى مصدر تهديد خطير ومباشر لنفوذ أمريكا، وإنها حققت فى السنوات الأخيرة قفزات دولية عديدة، ولا بد من مواجهتها قبل أن يستفحل نفوذها أكثر مما حققته بالفعل.

تباين القناعات بين ترامب ورؤساء أجهزة الاستخبارات من شأنه أن يؤثر على أسلوب الإدارة الجديدة بعد 20 من يناير الحالى، وغالباً ما سيمهد إلى إخفاق ترامب فى كثير من القضايا الداخلية والخارجية، وليس بخاف على أحد أنه فى داخل الحزبين الديمقراطى والجمهورى من يدفع بشدة نحو توريط ترامب فى موقف ما يبرر المطالبة بمحاكمته وطرده من منصب الرئيس، لأنه فاقد الأهلية وفقاً لهم، ولأنه فاز بدعم من الرئيس بوتين عبر القرصنة وإطلاق المعلومات المضللة وتسريب الرسائل بين هيلارى ورئيس حملتها بشكل أثر على توجهات الناخبين. والأمر برمته يهدد الديمقراطية الأمريكية ويضعها تحت ضغط النفوذ الروسى، وإن تم قبول هذه النتائج دون مقاومة ودون فضحها فقد يمتد تأثير بوتين وحملاته المعلوماتية إلى حلفاء أمريكا فى أوروبا، خاصة الدول التى ستشهد انتخابات فى العام الحالى وهى فرنسا وألمانيا وهولندا، وبالتالى يتوالى صعود أحزاب يمينية مما يؤثر على زعامة أمريكا ونفوذها العالمى.

مثل هذا الحوار المعلن والمثير بين الرئيس المنتخب وأهم أجهزة الدولة الأمريكية ومن ورائها الإعلام المضاد لترامب شخصياً ولتوجهاته السياسية والكاره بقوة للرئيس الروسى بوتين، يطرح كثيراً من المشكلات والقضايا السياسية والأمنية، أهم ما فى هذه القضايا ما يُعرف الآن بالقرصنة الروسية للانتخابات الرئاسية، وهى التى وصفها جون ماكين وهو أحد أبرز أعضاء الحزب الجمهورى، بأنها عمل حربى بامتياز، يتطلب الرد بكل قوة، مؤيداً فى ذلك استنتاجات مجلس الاستخبارات الأمريكية. والحقيقة البارزة هنا أن هذه القرصنة الروسية إن حدثت كما تروج لها هذه الأجهزة ومؤسسات إعلامية، فهى ليست أكثر من عمل تدخلى فى شأن مهم بغية التأثير على مساراته ونتائجه. وبهذا المعنى فهو تصرف لا يختلف كثيراً عما قامت به الولايات المتحدة عشرات بل مئات المرات فى مختلف دول العالم فى العقود الأربعة الماضية، بغية التأثير على نتائج انتخاباتها، وهى تدخلات أمريكية تضمنت استخدام كل أدوات التأثير المادى والمعنوى والقوة والعنف والشحن الإعلامى والدعائى بدون خجل، أما ما فعلته روسيا إن كان الأمر صحيحاً فهو استخدام التقنيات المعلوماتية بطريقة غير مشروعة لتهيئة بيئة انتخابية تؤثر فى توجهات الناخبين بما يخدم مصالح روسيا، وأهمها ألا تفوز هيلارى كلينتون، التى لديها توجهات سلبية شديدة تجاه روسيا وبوتين شخصياً، وكان يتوقع حال فوزها أن تُزيد من الضغوط على روسيا اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.

المفارقة الكبرى هنا أن الولايات المتحدة لديها تفوق معلوماتى هائل، ولديها من الأفراد والشركات والأجهزة ما يمكنها من ليس فقط اعتراض كافة أشكال القرصنة والتدخل للقراصنة الروس والصينيين والإيرانيين، بل أيضاً إفشالها وكشف مصدرها وآلية عملها، ولكنها لم تفعل فى حينه، وهنا تفسيران، الأول أن الأجهزة الأمريكية المعنية لم تلاحظ عمليات القرصنة الروسية حين حدوثها، وبما يعنى تفوق التقنيات الروسية على نظيرتها الأمريكية، والثانى أن هذه الأجهزة الأمريكية لاحظت واعترضت ولديها دلائل على هذه القرصنة الروسية ولكنها خفضت من التأثير المحتمل لها، وحين هُزمت كلينتون أعادت هذه الأجهزة النظر فى تقديراتها السابقة، وطرحت الموضوع بأثر رجعى باعتباره كشفاً خطيراً لعل ذلك يحد من دلالات فوز ترامب، ويضع أمامه المزيد من العراقيل إذا أراد أن ينقلب على المبدأ الحاكم فى سياسة الدولة الأمريكية بأن روسيا هى مصدر تهديد خطير وغير مؤهلة أن تكون بلداً صديقاً يُعتمد عليه. وأياً كان التفسير الأكثر صواباً، فالواقع يؤكد أن ترامب سوف يُحاط بكثير من الشكوك إذا أصر على تعزيز علاقات أمريكا مع روسيا، والأصوب له أن يتعامل معها بمستويات منخفضة مع استمرار العقوبات الاقتصادية التى أقرها الرئيس السابق أوباما.

وما يهمنا نحن فى بلاد العالم الثالث الأقل قدرة وخبرة فى إدارة هذه النوعية من الحروب المعلوماتية شديدة التعقيد، أن يكون لدينا الحد المناسب من صد وإفشال هذه الحروب وبما يجعل تأثيراتها فى أقل الحدود الممكنة، وأقول هذا وفى ذهنى أننا فى مصر نتعرض بالفعل لحرب معلوماتية متشعبة، هدفها خلق بيئة تشكيك وتشرذم وإقامة سدود معنوية بين النظام والناس، وأهم ما فيها هو إطلاق القصص المفبركة والمعلومات المضللة والشائعات التى تمس الذمم والسياسات والقوانين، مستخدمة فى ذلك كافة أدوات التواصل الاجتماعى، ومن الواضح أن مواجهة هذه الحرب المعلوماتية لها شقان، أحدهما تقنى وتكنولوجى لا يتوافر إلا للدولة وأجهزتها المتخصصة، أما الثانى فيتعلق بالمواطنين أنفسهم، بمعنى المناعة المجتمعية والقدرة على صد أثر المعلومات المُضللة، وهى مناعة تتوقف على حجم الشفافية التى يتعامل بها النظام والدولة والمؤسسات الرسمية مع المعلومة والحدث.