الدولة والإعلام.. والأخطاء الثلاثة

أوقات مثيرة تلك التى يمر بها الإعلام المصرى راهناً؛ إذ تنكمش الصناعة ويتراجع حجمها تراجعاً لافتاً مقارنة بالسنوات السابقة، وتُبعد بعض الإجراءات الخشنة والضغوط السياسية والأمنية أصواتاً، وتسكت منابر، وتجور على هامش الحريات المحدود.. وفى خضم تلك التطورات السلبية، يصدر قانونان إعلاميان يمكن أن يكون لهما أثر إيجابى فى المستقبل.

فخلال الأسبوعين الماضيين، صدر قانون «الهيئات الإعلامية»، الذى عُرف باسم «قانون التنظيم المؤسسى للإعلام»، كما صدر أيضاً قانون «نقابة الإعلاميين»، وهما قانونان ينطويان على بعض الجوانب السلبية وأوجه القصور، شأنهما فى ذلك شأن أى عمل قانونى أو تدابير منظمة لصناعة الإعلام، لكنهما فى المقابل ينطويان على ملامح إيجابية عدة، ويوفران أساساً تشريعياً يمكن أن يؤسس لخطة إصلاحية فعالة.

فقانون «الهيئات الإعلامية» يسد فراغاً تشريعياً كبيراً فى مسار صناعة الإعلام، وبفضله بات لدينا أول هيئة إعلامية ضابطة على غرار الدول المتقدمة، وهى هيئة تتسم بالاستقلالية، وتتمتع بتشكيلة متوازنة، وتؤسس لتعامل قانونى مع الصحافة الإلكترونية، وتوفر السبل الفعالة لإخضاع الأداء الإعلامى للتقييم، كما ينيط القانون إدارة وسائل الإعلام المملوكة للدولة لهيئتين مستقلتين عوضاً عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ورغم المزايا التى ينطوى عليها القانون، فإنه يعانى من مشكلات وأوجه قصور متعددة؛ منها أنه لم يصدر متكاملاً على الصورة التى اقترحتها الهيئة الوطنية لإعداد مقترحات التشريعات الإعلامية، وهى الهيئة التى ضمت خبراء ومهنيين وأكاديميين، يمثلون جميع المؤسسات المعنية بالصحافة والإعلام، وعكفت على مدى عامين على إنجاز تشريع موحد ومتكامل.

ومن أوجه القصور أيضاً أنه لم يوفر الأساس القانونى المناسب لحل مشكلة وسائل الإعلام المملوكة للدولة، وترك الباب مفتوحاً لإعادة إنتاج أوضاعها السابقة.

أما قانون إنشاء نقابة الإعلاميين فيتميز بكونه يدشن التنظيم النقابى الأول للجماعة الإعلامية، بعد مائة عام تقريباً من ممارسة الإعلام المسموع والمرئى فى مصر من دون نقابة لأبناء هذه المهنة.

من دون تأسيس نقابة الإعلاميين لم يكن بوسعنا أن ننشئ المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ولا الهيئة الوطنية للإعلام، المنصوص على إنشائهما فى قانون «الهيئات الإعلامية»، لأن نقابة الإعلاميين معنية بتسمية أعضاء فى كليهما.

لم يكن بوسعنا أيضاً أن نحظى بميثاق شرف للإعلاميين، لأن النقابة هى الكيان الوحيد المنوط به إصدار مثل هذا الميثاق، كما لم يكن بمقدورنا إنشاء آلية لتأديب الإعلاميين ومساءلتهم، لأن نقابتهم هى المعنية وحدها بذلك.

لقد جاءت تلك التطورات فى أعقاب هجمة ثقيلة على وسائل الإعلام والإعلاميين من جهات مختلفة، كان على رأسها الرئيس نفسه و«البرلمان» وأعضاء فى الحكومة وبعض الأجهزة التنفيذية.

تستند هذه الهجمة إلى ذرائع وجيهة فى بعض الأحيان، خصوصاً فى ظل الانحدار القياسى فى مستوى الأداء الإعلامى، لكنها ليست موضوعية أو حسنة النوايا فى بعض الأحيان الأخرى.

ثمة ثلاثة أخطاء كبيرة شابت العلاقة بين الدولة والإعلام فى مصر فى الفترة الماضية التى أعقبت الإطاحة بـ«الإخوان»، وبسبب تلك الأخطاء تفاقم التردى فى الأداء الإعلامى، وانحرفت الرسائل الإعلامية عن المسارات الموضوعية والإيجابية لمصلحة أنماط أداء متدنية.

إن هذه الأخطاء تتفاقم يوماً بعد يوم، وتلقى بظلال سلبية على الممارسة الإعلامية، وتحرفها عن القواعد المهنية، وتحد من حريتها، وتسلبها القدرة على النهوض بدورها المفترض.

الخطأ الأول يتعلق بتصور لدى السلطة مفاده أنه من الممكن الحد من انفلاتات المجال الإعلامى، عبر تركيز ملكية معظم وسائل الإعلام الكبرى فى يديها أو أيدى أتباع ومناصرين لها.

إن هذه السياسة قد لا تؤتى الثمار المتوقعة؛ لأن المحتوى الإعلامى الرائج والمؤثر لا يُنتج فقط عبر المؤسسات الكبيرة لكنه يرد من مصادر متنوعة، بعضها داخل البلاد وبعضها الآخر خارجها، وبعضها تنتجه وسائط تقليدية، فيما يأتى بعضها الآخر عبر وسائط «السوشيال ميديا».

أما الخطأ الثانى فيتصل بالدور المفترض لوسائل الإعلام فى التعامل مع التحديات الرئيسية التى تواجهها البلاد. يعتقد البعض، وبينهم ساسة نافذون وخبراء وأكاديميون، أن الإعلام يمكن أن يواجه تلك التحديات وحده، أو أنه «صاحب المجهود الرئيسى» فى مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية والعمليات الإرهابية.

وبسبب هذا الاعتقاد، يتوقف الساسة عن وضع الخطط اللازمة لمواجهة تلك التحديات، كما تتخلى أجهزة الدولة ومؤسساتها المعنية عن أدوارها المفترضة فى التصدى للمخاطر، وينتظر الجميع أن يقوم الإعلام بكسب المعركة وحده، معولين على قدرته الكبيرة فى النفاذ والتأثير فى قطاعات الجمهور.

وفى بعض الأحيان تقوم الدولة بتوجيه الانتقادات للإعلام، بداعى أنه السبب فى إثارة المشكلات مع الدول الأخرى، عبر الموضوعات التى يقوم بنشرها.

إن هذا التصور فى حاجة إلى مراجعة، إذ يصعب أن يختلق الإعلام مشكلة من العدم، كما تُمكّن السياسات الدبلوماسية والسياسية الرشيدة أى دولة من توضيح مواقفها وصيانة علاقاتها الدولية على النحو السليم، مهما كانت أخطاء الإعلام وممارساته الحادة.

ويتعلق الخطأ الثالث بالانطباع الذى تولد لدى قطاعات فى السلطة، بأنه من الممكن السيطرة على مصادر الرسائل الإعلامية والتحكم فى مضمونها، بشكل يخفف الاحتقان، ويحبط الروح الاحتجاجية، ويطوق النزعات النقدية، ويخلق اصطفافاً وتأييداً واسعين للقيادة السياسية.

ولعل هذا الخطأ يفسر لنا سبب استثمار الدولة أو بعض أجهزتها فى مجال الإعلام الخاص، عبر إطلاق مشروعات إعلامية.

ويتصل هذا بتصور أنه من الممكن منع الرسائل الإعلامية غير المرغوب فيها سياسياً من الظهور والوصول إلى الجمهور والتأثير فيه، وحجب الأصوات التى تطرح طرحاً نقدياً مخالفاً للرأى الرسمى، وإسكات المعارضة.

يعتقد البعض أنه بالإمكان منع وجهة نظر معينة من البروز عبر محاصرتها فى المنابر الإعلامية النظامية بما يحرمها من الانتشار والرواج.

من المؤسف أن تكون تلك الانطباعات سائدة فى هذا التوقيت بالذات، خصوصاً فى هذا العهد الذى يشهد زيادة كبيرة فى استخدام «الإنترنت»، وارتفاعاً هائلاً فى أعداد مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى.

حين تنشأ النزعات النقدية، يبحث الجمهور عن الصوت المعارض، وهو قادر على أن يجده مهما كانت إجراءات الحجب فعالة.

يجب أن نشيد ببدء صدور القوانين الإعلامية التى طالبنا بصدورها سابقاً لتنظيم المجال الإعلامى، وأن نطالب بصدور بقية القوانين المعنية، خصوصاً تلك التى اقترحتها «اللجنة الوطنية»، إضافة إلى قانون الحق فى الحصول على المعلومات.

كما يجب أيضاً أن نشير إلى صعوبة السيطرة على مصادر الرسائل الإعلامية فى واقعنا الراهن، بسبب التغيرات المذهلة التى طرأت على طبيعة العملية الاتصالية من جهة، وحالة التلقى الإعلامى من جهة أخرى.

إن أى عملية إصلاحية للمجال الإعلامى لا يمكن أن تنجح من دون سياق سياسى مواتٍ، وهذا السياق بالذات يجب أن يتحلى بدرجة عالية من الشفافية، وأن يتسم أيضاً بدرجة مناسبة من الرشد، الذى بفضله سيدرك صناع القرار أن القمع والمصادرة والتأميم باتت سياسات من الماضى، لا يمكن أن تنجح مع واقع الإعلام الذى نعيشه الآن.