تعلموا من الفلاح المصرى

محمد حبيب

محمد حبيب

كاتب صحفي

أنظر من نافذة الطائرة على وادى النيل وأنا مسافر من القاهرة إلى أسيوط والعكس.. هذا الشريط الضيّق الممتد من القاهرة حتى أسوان.. الوادى يتسع أو يضيق حسب ابتعاد أو اقتراب الهضبتين الشرقية والغربية منه.. وفى الوادى نلاحظ من عل مساحات أو قُل لوحات فنية خضراء، تتباين فى لون خضرتها من مساحة إلى أخرى.. المساحات تبدو فى صورة مربعات أو مستطيلات، غاية فى الدقة والروعة والجمال، كأنها مرسومة أو مخططة بيد مهندس معمارى أو فنان تشكيلى ذى حس مرهف وشعور راقٍ.. هذا من عمل وإبداع الفلاح المصرى.. تاريخ وخبرة وتجربة عبر مئات وآلاف السنين.. هذه التربة تصلح لزراعة هذا المحصول أو ذاك.. وهذا المحصول يبدأ من فترة كذا وينتهى عند فترة كذا.. يكفيه من مياه الرى هذا القدر، لا يزيد ولا ينقص، وهكذا وهكذا.. كما أن زراعة هذا المحصول تسبق أو تلى ذاك لأسباب هو يعلمها جيداً.. عند البدء تحتاج التربة إلى عملية حرث وتقليب وتعريض للشمس والهواء.. من الواضح أن الفلاح المصرى، يتعامل مع أرضه وأبقاره وجواميسه، بعلم وتخطيط وإدارة وتنظيم، فضلاً عن الخبرة الضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ.. كل ذلك يجرى بمنهجية وحرفية عالية المستوى.. هل نستطيع القول إن الفلاح هو الشخص المنتج فى مصر الذى يعمل دون ملل أو كلل ليمدنا نحن الشعب على كافة الأصعدة والمستويات، بالحياة؟! نعم نستطيع.. لكن من العجيب أنه رغم ذلك لا يأخذ منا أو من الدولة الاهتمام المطلوب.. هو لا يريد أكثر من تهيئة كل السبل التى تساعده على أداء دوره الفذ والخلاق للإنتاج.. لكن هيهات. المطلوب أيضاً على مستوى إدارة الدولة، داخلياً وخارجياً، وعلى مستوى كل وزارة وهيئة وشركة، أن نتعلم من الفلاح المصرى.. أن نرقى إلى أسلوبه وأدائه.. أن نأخذ منه عملية التخطيط والتنظيم والإدارة والمتابعة.. أن نتعلم على يديه مجموعة من المعانى والقيم اللازمة والضرورية لنجاح أى عمل.. أقصد بذلك الدأب والمثابرة والصبر والعمل دون ملل أو كلل.. هذا الحرص الكبير على الأرض والزرع والضرع.. الأرض عند الفلاح المصرى هى عرضه وشرفه وكرامته.. لا يسمح لأحد -أياً كان- أن يعتدى عليها أو يمسها أو يقترب منها.. أبقاره وجواميسه هى حياته وأدواته. من جهة أخرى، لعلنا نلاحظ أن المساحة المنزرعة لا تساوى شيئاً بالنسبة للصحراء القاحلة التى تحيط بالوادى، أو حتى تلك التى تحيط بالدلتا.. وإن هذه المساحة لم تزد بالقدر الذى يتناسب مع الزيادة السكانية.. بل الحاصل هو العكس، فهناك من يقتطع من المساحة المنزرعة ليبنى عليها.. وما يجرى على أرض الواقع هو جريمة بكل المقاييس، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنه خطر يهدد أمننا الوطنى.. لكن ما الذى يدفع الفلاح المصرى إلى البناء على أرضه؟! سؤال يحتاج إلى إجابة. للأسف نحن لدينا حكومة تفتقر إلى الحلم والخيال.. صحيح نحن لا ينقصنا علماء أو خبراء.. لكن تنقصنا القدرة على الإقدام والاقتحام.. تنقصنا الهمة والإرادة والطموح.. ينقصنا وضوح الرؤية الاستراتيجية.. للأسف، نحن ننظر من ثقب ضيق.. غارقون حتى شحمة آذاننا فى تفصيلات جانبية وقضايا فرعية.. الهدف العام يكاد يكون غائباً.. هل نحن فى حاجة إلى عملية حرث وتقليب وتعريض للشمس والهواء؟! ربما.