الحالة الاقتصادية.. الخطيئة الكبرى
الحق يقال، إن الحديث عن فشل الرئيس محمد مرسى وحكومته فى إدارة الاقتصاد فيه قدر من التجنى عليهما -الرئيس والحكومة معا- لأن الظروف الموضوعية فى غاية الصعوبة ولا أتصور أن رئيساً آخرَ أو حكومة مختلفة كان يمكن أن يحققا المعجزات. هذا من باب الأمانة والإنصاف. ولكن التوقف عند هذا الحد أيضاً لا يكفى لأنه مع صعوبة الظروف الاقتصادية وقلة البدائل المتاحة، فإن الخطيئة الكبرى التى لا يتحمل مسئوليتها سوى الرئيس هى أنه لم يدرك أن مفتاح الخروج من الأزمة الاقتصادية وتجنب تداعياتها يقع فى عالم السياسة وليس فى عالم الاقتصاد، أو كان مدركا لذلك ولكن غير مستعد لاتخاذ ما يلزم من الخطوات اللازمة للتعامل مع هذه الحقيقة. الظروف الموضوعية كانت -ولا تزال- شديدة الصعوبة لأن الرئيس بدأ حكمه والإنتاج متراجع، والمصانع تعمل بأقل من طاقتها، والسياحة فى أدنى مستوياتها، والاستثمار الأجنبى مشغول بالخروج من البلد، والأسواق والأسعار خارج السيطرة، والاحتياطى النقدى يتناقص، وفاتورة الدعم متجاوزة الحدود الممكنة، والبطالة متفشية. مع ذلك فإن الأزمة الاقتصادية التى نمر بها الآن لم تكن حتمية وكان بالإمكان تداركها أو على الأقل الحد من تداعياتها لو تم إدراك خطورتها من البداية والتعامل معها بحكمة. كان بإمكان الرئيس، وقد جاء منتخبا ومتمتعا بشرعية الصناديق ومدعوما بحكومات العالم التى توسمت فى انتخابه بداية المسار الديمقراطى لمصر، أن يخرج بالوطن من هذه المحنة وأن يعيد توجيه دفة الاقتصاد نحو الإنتاج والتنمية لو كان قد تعامل مع الملف تعاملا سياسيا واعيا واستغل حسن النوايا الذى كان متاحا له فى بداية حكمه. ولكن ما حدث هو العكس، إذ انشغل الرئيس وحزبه وجماعته بالصراع على السلطة وعلى الحكم وتركوا الأزمة السياسية تتفاقم بكل ما لذلك من تداعيات على الوضع الاقتصادى. وقد ظهر ذلك جليا فى الأخطاء الستة التالية:
■ الخطأ الأول كان الأسلوب الذى تم به تعيين الحكومة، إذ جاء بعد تأخير غير مفهوم وتردد واضح ثم انتهى باختيار حكومة غير محددة المعالم، تكنوقراطية أم سياسية؟ إخوانية أم محايدة؟ صاحبة صلاحيات كاملة أم تنفيذية لسياسات الجماعة؟
هذا التخبط فى تحديد دور وهوية الحكومة كان الرسالة الأولى والمبكرة على غياب الجدية فى تناول القضايا الاقتصادية بالقدر المطلوب من الاهتمام والتركيز وأن الهدف هو مجرد إدارة شئون البلد بحكومة تسيير أعمال لا التصدى بحسم للقضايا الملحة.
■ الخطأ الثانى كان عدم إدراك أن حالة الانقسام التى أصابت المجتمع بسبب معركة الدستور والجمعية التأسيسية وبالذات الإعلان الدستورى الصادر فى نهاية نوفمبر سوف يكون له تأثير فادح على قدرة الرئيس والحكومة فيما بعد على البحث عن توافق مجتمعى فى أى موضوع وبخاصة الأزمة الاقتصادية التى كانت لا تزال تحت السيطرة. ولكن للأسف فإن الرغبة فى الانتصار فى معركة الدستور بأى وسيلة وبأسرع ما يمكن وبغض النظر عما يؤدى إليه ذلك من تعميق للانقسام والاستقطاب فى المجتمع قد أعمت البصائر وجاءت على حساب التفاهم بين الأحزاب والقوى السياسية الذى كان -ولا يزال- مطلوبا وضروريا من أجل التعامل مع الوضع الاقتصادى المتجه إلى حافة الهاوية.
■ أما الخطأ الثالث فكان تجاهل الملف الاقتصادى أصلا حتى وقت متأخر للغاية بسبب الانشغال بالصراع على الحكم، كما لو كان يمكن تنحيته جانبا لفترة من الوقت ولحين الانتهاء من المعركة السياسية ثم العودة إليه بعد ذلك. ولكن للأسف فإن الأمور لا تسير على هذا النحو ولا بهذا الشكل الميكانيكى، وإن إدارة البلد إدارة رشيدة كانت تتطلب قدرة على التعامل مع كل الملفات الملحة فى ذات الوقت وليس اختيار ما يتم البدء به وتأجيل الباقى. كل خبراء مصر والعالم حذروا بدلا من المرة مئات المرات من أزمة السولار قبل استفحالها بأشهر طويلة، ومن عواقب انخفاض الاحتياطى النقدى، ومن الأزمات المرتقبة فى السماد والكهرباء، ولكن ظلت هذه التحذيرات لا تجد من يهتم بها لأن لا صوت يعلو على صوت معركة الحكم.
■ ونأتى للخطأ الرابع وهو وعد الناس بما هو مستحيل وعدم مشاركة المجتمع فى استيعاب حقيقة الوضع الاقتصادى، فظل الرأى العام لفترة طويلة متصورا أنه لا توجد مشكلة من الأصل، وأن العلاقات الطيبة لمصر فى العالم سوف تجلب لها استثمارات بمائتى مليار دولار، وأن الأموال المهربة خارج البلاد ستعود فورا ويتم توزيعها على المواطنين، وأن مشروع النهضة سيحل كل المشاكل، ومؤخراً أن قانون الصكوك سوف يجلب وحده عشرين مليار دولار، بينما الحقيقة غير ذلك.
■ أما الخطأ الخامس فكان التردد والتخبط فى تنفيذ حتى أبسط السياسات الاقتصادية بسبب عدم وضوح من بيده السلطة، الرئيس أم الحكومة أم الحزب أم الجماعة أم البرلمان. والنتيجة أنه بدءا من أبسط القرارات الإدارية مثل غلق المحال التجارية فى موعد معلوم وحتى أكبرها مثل فرض الضرائب الجديدة لم نجد سوى حالة من التخبط والتردد وتغيير الرأى والغموض ثم إلقاء اللوم على كل من يتصادف وجوده برغم أن هذا التخبط فى حد ذاته هو أسوا رسالة يمكن توجيهها داخليا وخارجيا.
وأخيراً، فإن الخطأ السادس كان عدم إدراك أن حجم الأزمة الاقتصادية قد تجاوز الحدود التى يمكن التعامل معها بالوسائل التقليدية، فلم تعد الزيادات الطفيفة فى الضرائب كافية، ولا توفير بعض المصروفات الحكومية الهزيلة، ولا افتتاح محطة جديدة للصرف الصحى، ولا توزيع بعض المساكن هنا وهناك. الناس توقعت تغييرات جذرية فى أعقاب الثورة ونتيجة لها، تغييرات تحقق مزيدا من العدالة الاجتماعية، وتعيد هيكلة الموازنة العامة، وتطلق طاقات العمل والإنتاج، فإذا بها تجد أن الحكومة لم يعد أمامها سوى أن تجوب العالم بحثا عمن يقرضنا مليارا هنا أو يعطينا وديعة هناك لأنه لا توجد رؤية حقيقية وجذرية لإصلاح الاقتصاد.
الأزمة الاقتصادية التى نمر بها لم تكن حتمية ولم تأت نتيجة لظروف طبيعية أو كوارث تتجاوز إرادتنا، بل هى نتيجة منطقية لإهمال الملف الاقتصادى والتعامل معه باستخفاف وعدم إدراك أن الاقتصاد سوف يكون الضحية الأولى لحالة الاحتقان والانقسام السياسى التى يمر بها الوطن. وإن لم يدرك النظام الحاكم هذه الحقيقة فلن ينفعه لا السفر إلى الخارج ولا استجداء المعونات والودائع ولا سهر الليالى.
التوافق السياسى هو المفتاح الوحيد للخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة.