نجيب محفوظ بين الأدب والسيناريو

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

كان من دواعى الزهو والتيه والإحساس بالفخر أن أبدأ رحلتى فى التأليف الدرامى بكتابة سيناريو وحوار الفيلم التليفزيونى «تحقيق» المأخوذ عن قصة قصيرة بنفس الاسم لأستاذنا الكبير «نجيب محفوظ».. والتى نشرت ضمن المجموعة القصصية «الجريمة».. وكان لنجاح الفيلم من ردود الفعل الجيدة تجاهه من قبل النقاد والمتلقين فى ذلك الوقت دافع قوى وحافز كبير لى على الاستمرار والتواصل واكتساب الثقة.. خاصة أن القصة كما كتبها أديبنا الكبير كانت صعبة التحويل إلى عمل مرئى.. وبالتالى تمثل لى تحدياً واختباراً فى مدى قدرتى على التوصل إلى بناء درامى مختلف عن السياق المكتوب بالقصة مع عدم الإخلال بمضمونها ومحتواها الفكرى المهم فى الوقت نفسه.

ذلك أن القصة بطبيعة شكلها الملغز القائم على تداخل الأزمنة والأمكنة، ونسف منطق التتابع الذى لا يعتمد على التسلسل التقليدى والحبكة المرتبطة ببداية ووسط ونهاية، ورسم الشخصيات الملتبس، واختلاط مستويات الحدث، وغموض المحتوى الذى يحتوى على نهاية غريبة، ويضفى على القصة كلها شكلاً عبثياً وإطاراً رمزياً يعكس كما تعكس المجموعة القصصية كلها اتجاهاً فريداً فى أسلوب نجيب محفوظ مغايراً لطبيعة قصصه السابقة المعتمدة على البناء الكلاسيكى المحكم.

حينما أسترجع تلك الأيام فى بداية الثمانينات أتذكر أن المنتج طلب منى موافقة كتابية من أستاذنا.. فعلمت أن الأستاذ يجلس بمقهى «ريش» فى الصباح الباكر.. ذهبت إلى هناك وجدته يطالع الصحف فى انهماك وتركيز، انقضضت عليه متلهفاً أن أحصل على موافقته وبادرت بتقديم نفسى إليه.. لكنه استمهلنى فى حسم مردداً:

- ولكنى أقرأ الجرائد الآن.

انسحبت فى حرج بالغ وجلست إلى منضدة قريبة وأنا أقرض أظافرى فى توتر وترقب.. وما إن طوى آخر جريدة يطالع فيها حتى عاودت الانقضاض عليه.. فاستقبلنى فى مودة وبشاشة تتناقض مع زجره السابق.

وبعد مناقشة قصيرة وافق بأريحية وترحاب على معالجتى الدرامية للقصة..

وحينما عرض التليفزيون الفيلم سأل الناقد «محمد صالح» الأستاذ عن رأيه فى الفيلم ملمحاً له أن السيناريست قد غيّر كثيراً من أحداث القصة ورسم الشخصيات والنهاية.. وحول اتجاهها من قصة تنتمى إلى أدب اللامعقول إلى فيلم معقول، فأكد له الأستاذ: حسناً ما فعل.. فقد سبق أن التزم كاتب سيناريو آخر بقصة عبثية أخرى لى هى «شهر العسل» بنفس طريقة الحكى والبناء العبثى، فأغلق الناس التليفزيون..

يؤكد هذا الاعتراف أن كاتبنا الكبير كان يدرك تماماً الفروق الجوهرية بين لغة الأدب واللغة المرئية.. وأن القصة أو الرواية المقروءة تختلف اختلافاً كبيراً فى بنائها وطريقة سردها عن طبيعة العمل المرئى من خلال السيناريو الذى يعتمد على أدوات ووسائل مختلفة.

ومن ثم فإن السيناريو فن قائم بذاته ولذاته.. ولا يعتبر كاتبه مجرد وسيط أو معد أو ناقل أو محاكٍ للرواية الأصلية.. وإنما هو ينشئ عالماً كاملاً يوازى عالم الروائى.. يتفق معه فى المضمون الفكرى، لكنه يختلف عنه فى وسائل التعبير ولم لا.. والأستاذ مارس كتابة السيناريو والحوار لأكثر من أربعة عشر فيلماً منذ الأربعينات.. أشهرها الأفلام التى أخرجها «صلاح أبوسيف» مثل «ريا وسكينة» و«الوحش» و«شباب امرأة» و«الفتوة» و«بين السما والأرض».. وأيضاً التى أخرجها «عاطف سالم» مثل «جعلونى مجرماً» و«إحنا التلامذة» ثم «درب المهابيل» «لتوفيق صالح» و«الناصر صلاح الدين» و«جميلة بوحريد» و«الاختيار». وقد حكى لى الفنان الكبير «فريد شوقى»، محاولاً التأثير علىّ للتواضع فى تحديد قيمة الأجر وأنا أوقع معه عقداً لكتابة سيناريو وحوار مسلسل، أن الأستاذ «نجيب محفوظ» حينما اتفق معه هو و«صلاح أبوسيف» على كتابة سيناريو وحوار فيلم «الفتوة» كان الأجر مائة جنيه فقط، مقسم على أقساط قيمة كل قسط خمسة وعشرون جنيهاً.. وعندما مد يده إليه بمظروف به القسط الأخير بعد انتهاء كتابة السيناريو رفض أن يأخذه فلما سأله عن السبب أجابه: يكفى أننى تعلمت منكما.

حيث إن صلاح أبوسيف كان قد أمده بالكثير من الكتب عن فن كتابة السيناريو التى أفادته كثيراً كما أفادته المناقشات التى كانت تتم بينهما.. وهو بسلوكه هذا يضرب مثالاً فريداً فى التعفف والزهد فى المال والاهتمام بالمستوى الفنى للعمل.

وإن كان كما صرح الناقد الكبير «رجاء النقاش» فى كتابه المهم عنه بأنه لم يكن سعيداً بكتابة السيناريو.. وأنه كان يمارس ذلك الفن كوسيلة للصرف على الأدب.. عالمه الأثير.. ويقارن بين العمل فى السينما والخلق الأدبى بالعمل السينمائى حيث إنه فى الأدب رب عمله لكن السينما عمل جماعى بالإضافة إلى سيطرة الطابع التجارى ورغبات المنتجين وأهواء الموزعين وإعادة تفصيل الأدوار تبعاً لأفكار وميول الممثل المحبوب أو الممثلة المحبوبة.

فليس الكاتب هو الشخصية الرئيسية فى صنع الفيلم لذلك فقد ذهب الناقد «هاشم النحاس» إلى أن الأفلام المأخوذة عن روايات أو قصص «نجيب محفوظ» كانت بوجه عام أكثر نضجاً من الأفلام التى كتب لها السيناريو بنفسه مباشرة.

والملاحظ أيضاً أن الأستاذ لم يكتب سيناريو أى عمل من أعماله الأدبية لأنه يرى أنه لا يستطيع أن يغير من شكلها الأدبى وكان يترك للآخرين أن يفعلوا ذلك مستخدمين أدوات أخرى تختلف عن أدوات الروائى.