بروفايل: الجندى المجهول.. شهيد تحت الطلب

كتب: حازم دياب

بروفايل: الجندى المجهول.. شهيد تحت الطلب

بروفايل: الجندى المجهول.. شهيد تحت الطلب

روحه مصرية، تنضح بسمرة رقيقة، اكتسبها من الشمس الحارقة التى لا يستظل منها منذ أن رفل فى رداء الجيش بألوانه الزيتية المميزة. كان يتسكع بين المقاهى، يبحث عن عمل، أو يشرع فى زواج، مصرى غارق فى البساطة. لا يهم اسمه، قد يكون «محمد» أو «سعيد» أو «منتصر»، أسماء لا تعلق بالذاكرة، تماما كألوان بدلته «الكاكى»، هو القادم من أعماق الصعيد، أو من قلب الدلتا أو مدن السواحل. يقول عنه صلاح عبدالصبور: «ولم ألمح سوى بسمتك الزهراء والعينين/ ولم تعلن لنا الشاشة نعتا لك أو اسما/ ولكن، كيف كان اسم هنالك يحتويك؟/ وأنت فى لحظتك العظمى/ تحولت إلى معنى». هو ملح الأرض، المواطن «مصرى»، وقود المعركة، ضريبة النصر، ما إن تعوى صافرة الحرب حتى يتم استدعاؤه، يترك دفء البيت وونس العنبر، يحمل مخلته على كتف صامدة تحمل الفأس والدانة، يستعد بسلاحه، يدخل غمار المعركة، يزحف ويركض وينسحب، يقول له القائد اضرب، أو تقهقر، يفقد ساقا، يخسر عينا، أو يأتى من غير يدين، لكن يأبى إلا أن يأتى بالنصر. «عبد المأمور»، قدره أن يصبح جندياً، ومصيره أن يبقى مجهولاً، متشابه مع الآلاف فى أشكالهم وحركاتهم وأحلامهم البسيطة، يتحد مع أمثاله عبر العصور المتعاقبة، ما بين 48 و67 و73، وما بينهم من استنزاف وحروب عربية، واستشهاد على الحدود. يقول «عبدالصبور»: «تُراكَ، وأنت فى ساحة الخلود، وبين ظل الله والأملاك/ تُراكَ، وأنت تصنع آية، وتخط تاريخا/ تُراكَ، وأنت أقرب ما تكون إلى مدار الشمس والأفلاك/ تُراكَ ذكرتنى، وذكرت أمثالى من الفانين والبسطاء/ وكان عذابهم هو حب هذا العلم الهائم فى الأنواء/ وخوف أن يمر العمر، لم يرجع إلى وكره/ وها هو عاد يخفق فى مدى الأجواء». قد تصيبه رصاصة عدو طائشة، فيحمل لقب «الشهيد»، أو تخطئ الرصاصة موضع القتل، فيحمل إعاقة، تدفع الدولة بأن تصرف له إعانة شهرية، أو كشك سجائر، يقتات منه لسنوات، ثم يدخل بعدها فى طى النسيان، لا يعرف سوى أن يكون مجهولاً.. بجسارته دحر العدو، ورفرف العلم خفاقاً فى الحدود «تملّيناك، حين أهلَّ فوق الشاشة البيضاء/ وجهك يلثم العلم وترفعه يداك لكى يحلق فى مدار الشمس/ حر الوجه مقتحما». نصيبه نُصب تذكارى، فى القاهرة أو المنشية، يُذكر اسمه فى المناسبات، تحرير سيناء أو ذكرى أكتوبر، يذهب الرؤساء والمسئولون، على وجوههم ابتسامات لعدسات الكاميرا، فى أيديهم أكاليل من الورد، يضعونها على قبره المجهول. يختم صلاح عبدالصبور رسالته للجندى المصرى: «رأيتك جذع جميز على ترعة/ رأيتك قطعة من صخرة الأهرام منتزعة/ رأيتك جانبا من حائط القلعة/ رأيتك دفقة من ماء نهر النيل وقد وقفت على قدمين/ لترفع فى المدى علما يحلق فى مدار الشمس/ حر الوجه مبتسما».