الخليج «يستجير» ببريطانيا ومصر خارج الحسابات

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

مقدمة البيان الختامى لاجتماع قمة دول «مجلس التعاون الخليجى» بمشاركة تيريزا ماى رئيسة وزراء بريطانيا فى البحرين 6-7 ديسمبر، أشارت «لتاريخ» تعاونهما فى تأمين مصالحهما المشتركة، لكن التاريخ يسجل أنه منذ ١٨٢٠، وبامتداد قرابة 150 عاماً، كانت بريطانيا القوة الاستعمارية المهيمنة بالمنطقة.. الإحالة لتاريخ استعمارى، قبل إطلاق «الشراكة الاستراتيجية» بين «المجلس» وبريطانيا، ألقت بظلالها السوداء على مستقبل الأوضاع بالخليج، الذى اعتبرنا التزامنا تجاهه «مسافة السكة».

المستعمر البريطانى يعود من جديد، بمباركة أمريكا، بعد فشلها فى توظيف الإسلام السياسى، وسقوط مشروعها بمصر، ما فرض الاستعانة بمن صنع تنظيم الإخوان، وخطط لدورهم بالمنطقة.. بريطانيا التى قامت بدور رئيسى فى التوصل للاتفاق النووى، تسعى لسد الفراغ الناتج عن تغير أولويات الاستراتيجية الأمريكية، واتجاهها للتركيز على آسيا، لحصار العملاق الصينى، على حساب وجودها بالشرق الأوسط.. بريطانيا تحاول تهدئة واستغلال مخاوف الخليج مما أعلنه ترامب بشأن «مقابل الحماية»، فى عملية تحول تاريخية، تعيد المنطقة لمظلة الحماية البريطانية.. عودة بريطانيا للخليج تستهدف تعويض خسائرها جراء خروجها من الاتحاد الأوروبى، وذلك من خلال عدة محاور؛ التعاون فى المجال العسكرى والأمن الوطنى، والالتزام بأمن المنطقة وحمايتها!! توسيع التجارة مع الخليج، ثالث أكبر سوق للصادرات البريطانية.. امتصاص الودائع والاستثمارات التى أصابها قانون «جاستا» بالذعر.. تعظيم نشاط الشركات البريطانية بدخولها 15 قطاعاً بقيمة 30 مليار جنيه إسترلينى، على امتداد خمسة أعوام.. عقد صفقات عسكرية بتكلفة غير مسبوقة.. المردود السياسى سريع؛ تراجعت بريطانيا عن رؤية فيليب هاموند وزير خارجيتها السابق للحرب فى اليمن، القريبة من الرؤية الأمريكية، التى أدت لسحب 45 مستشاراً عسكرياً بعد إدانة واشنطن لما وصفته بجرائم الحرب السعودية، وتم إجبار بوريس جونسون وزير الخارجية الحالى على التراجع عن اتهامه للسعودية بإساءة استغلال الإسلام، وأنها وإيران تشعلان حروباً بالوكالة، وألزمته بالدفاع عنها.. نفى انتهاك الغارات لحقوق الإنسان، وبررها بالرد على هجمات الحوثيين!!

مجلس التعاون يواجه إشكاليتين.. الأولى: افتقاده الرؤية المتعلقة بالربط بين اجتماعات القمة وحسم القضايا الاستراتيجية ذات الارتباط المباشر بمصالح الأمن القومى لدوله، ليس أدل على ذلك من مشاركة الرئيس الإيرانى السابق أحمدى نجاد فى القمة 28 بالدوحة 2007، رغم المخاوف المتعلقة بالنووى الإيرانى، وعدم تسوية مشكلة الجزر، ثم ما تلا ذلك من تناقضات سياسية إيرانية مع مصالح وأمن دول الخليج.. الرئيس الفرنسى أولاند شارك فى قمة الرياض مايو 2015، قبل أقل من أسبوعين من استدعاء أوباما لقادة الخليج لاجتماع كامب ديفيد، استناداً إلى أن فرنسا كانت أكثر القوى تشدداً فى مفاوضات النووى، حتى إنها انسحبت للضغط عدة مرات، وكانت أول دولة غربية تعترف بالمعارضة السورية، وتؤيد إسقاط نظام الأسد بالقوة، وإيجاد مناطق آمنة، إضافة لتعويل الخليج على قدرتها فى إقناع روسيا بتنفيذ «جنيف1»، وتأييدها للشرعية فى اليمن، اللجوء لفرنسا رفضته أمريكا، ما يفسر التسريب المتعمد لفضائح ويكيليكس عن السعودية، وما أعقبه من توقيع الاتفاق النووى مع إيران، الذى سلم بمصالحها وأطلق يدها بالمنطقة.. دول المجلس وجدت فى دعوة أوباما للمشاركة فى قمة الرياض أبريل 2016 اختياراً مفروضاً لاحتواء غضبه، لكن ذلك تم بينما كان مجلس الشيوخ يعد لإقرار قانون «جاستا» فى مايو، ليصبح سارياً فى سبتمبر بعد إقرار مجلس النواب!! كل محاولات الاقتراب من «المجلس» التى قامت بها الدول الغربية بدعوى توفير الدعم والحماية استهدفت فى الأساس استنزاف أرصدته النقدية الضخمة؛ فى استثمارات وودائع، أو مقابل خدمات تقدمها الشركات، أو كسوق لتصريف بضائعها، بخلاف المشتريات العسكرية الضخمة التى تعجز جيوش الخليج صغيرة العدد عن استيعابها.. الثانية: هى أن العلاقات البينية بين دول الخليج تشوبها خلافات عميقة، أبرزها تفرد السياسة العمانية بمواقف مخالفة ومنفردة فى الملفات الإقليمية والدولية، خاصة دورها كوسيط فى مفاوضات الاتفاق النووى مع إيران، ورفضها المشاركة فى التحالف العربى باليمن، ومعارضتها للتوجه السعودى بتطوير المجلس «من التعاون إلى الاتحاد».. الخلاف القطرى الإماراتى حول الملف الليبى.. والتنافس القطرى السعودى على الاضطلاع بالمسئولية الرئيسية عن الملف السورى.. والخلاف السعودى الإماراتى بشأن الملف اليمنى.. خلافات عميقة تحت السطح تهدد مستقبل المجلس.

البحث عن مظلة أمنية أدى لتحول الخليج إلى قاعدة عسكرية دولية متعددة الاستخدامات والجنسيات، السعودية مقر للقيادة العسكرية المركزية الأمريكية، البحرين مقر للأسطول الخامس، قطر مقر للقيادة الجوية، القاعدة العسكرية الفرنسية تم تدشينها بأبوظبى مايو 2009، قاعدة إسناد البحرية البريطانية اُفتتحت بالبحرين نوفمبر 2015، أول مقر إقليمى لحلف الناتو أنشئ مؤخراً بالكويت، وضمن متابعة «التايمز» للتغيرات الاستراتيجية بالخليج، أشارت إلى أن مدمرة البحرية الملكية البريطانية «HMS Ocean» تولت لأول مرة عملية القيادة من حاملة الطائرات الأمريكية «USS Eisenhower» بمنطقة الخليج، لسبع قطع بحرية أمريكية وفرنسية تغطى عملياتها 2.5 مليون ميل بحرى.. بريطانيا تتولى تدريب الحرس الوطنى السعودى، من خلال بعثة عسكرية دائمة، وتنفذ برنامج تطوير أنظمة التسليح والاتصالات والمراقبة الإلكترونية لطائرات «التورنيدو» السعودية، وتدريب الأطقم الفنية والجوية عليها، «الأوبزيرفر» أشارت إلى أن بريطانيا توفد 20 فريق تدريب للسعودية سنوياً، وماى كشفت عزمها ضمان وجود دائم لقواتها بكافة دول المجلس، وإنشاء قواعد تدريب، يتمركز بها 30.000 جندى بعائلاتهم حتى 2030، وتوقع الخبراء تجاوز تكلفة إجراءات الحماية البريطانية لدول الخليج 100 مليار دولار!!

ضمن رحلة البحث عن كفيل أمنى، عُقدت قبل القمة الخليجية البريطانية بيوم واحد قمة أخرى خليجية بمشاركة العاهل المغربى الملك محمد السادس، انضمام المغرب والأردن للمجلس كان موضع ترحيب بقمة الرياض مايو 2011، ودعاهما الأمين العام للمجلس حينئذ، لاستكمال الإجراءات، إلا أن الأمر توقف، ويبدو أنه ما زال موضع مراجعة.. أما مصر فقد أشار البيان الصادر عن القمة الخليجية البريطانية باقتضاب إلى أن «الجانبين يدعمان التعاون بين صندوق النقد الدولى ومصر»، الأمر الذى يعكس تخلى «المجلس» رسمياً عن دعم مصر، اكتفاءً بدور المنظمات الدولية المعنية.. التورط السعودى فى اليمن فتح المجال لدور قطرى مضاد لمصر داخل مجلس التعاون، والخلاف السعودى مع مصر أدى لاستبعادها من الحسابات الأمنية، ومصر لم تحسن تقديم نفسها كـ«حليف ومنفذ»، فتمكن أعداؤها من تصويرها كـ«عالة».. لم يعد أمن الخليج جزءاً من أمن مصر كما اعتادت عبر التاريخ، إنما أصبح جزءاً من أمن المستعمر القديم «الذئب البريطانى».