الأب الروحى لأربعة ملايين طفل
رحل روبرت إدواردز عالم الفسيولوجيا الشهير وصاحب فكرة أطفال الأنابيب، التى غيّرت وجه علم النساء والولادة، وكانت ثورة اجتماعية قبل أن تكون طبية. قصة هذا الرجل لا بد أن تُدرّس لكل شخص يمتلكه اليأس حين تواجه حلمه عقبات وإحباطات. قالت جمعية «نوبل» فى معهد كارولينسكا السويدى: إن «إسهاماته تمثل علامة بارزة فى تطوّر الطب الحديث»، وقالت أيضاً إنه «أصبح من الممكن علاج العقم، وهى حالة طبية يعانى منها نسبة كبيرة من البشر، بما فى ذلك أكثر من 10 فى المائة من جميع الزيجات فى جميع أنحاء العالم»، وقال البروفيسور Tarlatzis، الرئيس الحالى للاتحاد الدولى لجمعيات الخصوبة: «هذا يمثل شرفاً عن جدارة. لقد فتح آفاقاً جديدة، إن التلقيح الاصطناعى هو الأمل لملايين الأزواج فى جميع أنحاء العالم». وكان له أيضاً تأثير كبير على فهمنا للدواء، مما أدى مباشرة إلى هذه التطوّرات مثل أبحاث الخلايا الجذعية، والتشخيص الوراثى السابق للانغراس، والعديد من المجالات الأخرى. هذا الرجل كان فى معركة مع الزمن، وكان يقود سيارته يومياً مئات الكيلومترات من المستشفى إلى معمله، حاملاً البويضات، محاولاً الحفاظ على درجة حرارة مناسبة، ولم يكل ولم يمل حتى وصل إلى حلمه الرائع.
«روبرت إدواردز» الذى قدّم لملايين الأسر التى كانت تعانى من العقم حلاً سحرياً فى تقنية أطفال الأنابيب. هذا العالم العبقرى الذى اقترب من التسعين، امتلك القدرة على الحلم، وامتلك إمكانية تحقيق هذا الحلم مع زميله طبيب النساء «ستبتو»، والأهم أنه امتلك شفرة تحويل الطب إلى معادلة أساسها تحقيق السعادة للناس، فهم العلم على أنه حب البشر واحترام رغباتهم البسيطة التى من أهمها حقهم فى الإنجاب واكتساب بصمة الخلود فى حياة أبنائهم، لم يوقف تجاربه، انتظاراً لرأى رجال الدين، لم يعطّل أبحاثه حتى يهتدى القساوسة إلى حل ويحسموا خلافاتهم. حرّكته نظرة الحرمان من أم مكلومة وأب محبط، وما إن تحقق الحلم فى 25 يوليو 1978 بولادة «لويز براون» أول طفلة أنابيب، هاجت الدنيا عليه، هاجمته الكنيسة، وتبعها فى الهجوم كل السلفيين ورجال الدين من جميع الديانات والعقائد، صرخوا «زنديق، كافر، يتلاعب بسر الحياة الإلهى»، ورغم أنه بفضل «روبرت إدواردز» خرج إلى النور أكثر من أربعة ملايين طفل يملأون الحياة بهجة، وينتشلون أسرهم من بئر الإحباط التى بلا قرار، فقد ظل هذا السيف مصلتاً على رقبته. أعتقد أن لجنة «نوبل» كانت قد تأخرت فى منح هذا العالم العبقرى الجائزة، خوفاً من غضبة الكهنة ورجال الدين، ولننظر ما هو رد فعلهم، لكى نتأكد من صدق هذا التخمين والاعتقاد، انتقد رئيس الأكاديمية البابوية للحياة اختيار «إدواردز» لمنحه جائزة «نوبل» للطب، وقال المونسنيور انياسيو كاراسكو دى باولا لوكالة الأنباء الإيطالية (إنسا): «دون إدواردز لما كانت هناك سوق تباع فيها ملايين البويضات.ولما كان فى العالم عدد كبير من الثلاجات المليئة بالأجنة». وأضاف: «فى أفضل الحالات، فإن هذه الأخيرة تنتظر نقلها إلى أرحام، لكن الأرجح أن ينتهى بها الحال إلى الإهمال أو الموت، وهى مشكلة يتحمل مسئوليتها حائز نوبل الجديد»، كما اعتبر رئيس الأكاديمية البابوية أنه «دون إدواردز لما كان الإنجاب بمساعدة خارجية فى حالة بلبلة مع أوضاع غير مفهومة لأطفال وُلدوا من جدات أو من أمهات حاضنات»، وأنهى هجومه قائلاً: «أجد أن اختيار روبرت إدواردز يصعُب تفسيره»، و«أسباب الحيرة عديدة». ما زالت نظرة رجال الدين للعلم منذ هيباشيا وكوبرنيكوس وجاليليو وابن رشد والكندى حتى الآن هى نظرة تربُّص وتوجُّس وكراهية خشية ضياع السطوة والسيطرة على عقول البسطاء، حين يكشف العلم أكثر ويتوغل فى المجهول أكثر ويُقدِّم حلولاً أفضل وأكثر واقعية وعملية، ما زال الفاتيكان يعتبر تقنية أطفال الأنابيب «غير مشروعة أخلاقياً» بسبب «التضحية بعدد كبير جداً من الأجنة»، وما زال الأزهر يُدرِّس لتلاميذه آراء فقهاء يقولون إن أقصى مدة للحمل خمس سنوات، وما زال الحاخامات اليهود يُحرّمون الاستنساخ، وما زال العلم يمضى فى طريقه غير عابئ ولا مهتم بآراء من يريدون تعطيل قاطرة الحضارة وتحنيط الدنيا فى تابوت الماضى والأوهام.