درس إسرائيلى فى الخلاف السياسى

ماهر فرغلى

ماهر فرغلى

كاتب صحفي

نحن نواجه خطورة حقيقية حين نحوّل خصوماتنا السياسية دائماً إلى صراع وقتال وخطاب تحريضى يُستخدم فيه بدلاً من الكلمات العنف، والإرهاب، ونفى الآخرين، وهذا ما جرى بالضبط حين لم يشفع الموت ليسرى سلامة من هجاء متطرفى الأفكار، فقالوا عنه: «إن آخر صحبته كان لقوم يشاقون الله ورسوله ويزيفون على الناس دينهم»، كما لم يتوقف هجاء الشيخ البوطى حياً وميتاً، فلاحقوه إلى قبره، ووصفوه بالمنحرف، لأنه اكتفى بالبقاء فى محرابه الذى شككوا فى مقتله فيه، واستكثروا صفة الشهيد عليه. دعونا نقارن إذن بين مواقفنا ونتانياهو الذى تحدث فى ذكرى خصمه السياسى إسحق رابين، الذى قُتل على يد متطرف يهودى على خلفية الاختلاف السياسى حول مشروع أوسلو، فقال: «لقد كان خصماً عنيداً، وجذرياً فى مواقفه، لكنه كان رمزاً من رموز أمتنا، ويعمل من أجل الدولة، وأحذّر من أن اليد التى امتدت إليه وقتلته هى يد مدمرة ومتطرفة تقودنا إلى المجهول، لأن سر وجودنا واستمرار دولتنا يكمن فى المعارضة والاختلاف بعيداً عن العنف والقتل». أصبحت الآية «تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى» لا تنطبق على نتنياهو واليهود الذين نزلت فيهم، بل علينا، بعد أن أصبحت وصفاً لذواتنا، ولأمتنا، ولمواطنينا، الذين قادهم الاختلاف فى السياسة إلى تعميق الشقاق حتى فى العقيدة، فكفروا بعضهم بعضاً، وخوّنوا بعضهم، وأباحوا دماء بعض، ولم يدعوا الموتى بل لاحقوهم إلى قبورهم. إن اليهود، الذين نزلت فيهم الآية، استطاعوا أن يحولوا شتات قلوبهم إلى برنامج سياسى موحد، وصنعوا آلية للتعامل فى قضايا الاختلاف، فاتفقوا على ما سموه «الوضع الراهن»، وعلى تجميد الخلاف التاريخى وإبقائه كما هو، وتجاوزوا أزمة التاريخ، وانتقلوا إلى الخطر المقبل، ووقفوا على أرض فلسطين أمة واحدة «أشداء على العرب رحماء بينهم». أدركت إسرائيل ومؤسساتها أن مقتل رابين جاء نتيجة فلتان لسان السياسيين الذين كانوا يعارضون بشكل تحريضى خارج عن السياق المقبول، فخلدت ذكرى مقتله، واعتبرتها نقطة سوداء فى تاريخها، وسنّت قوانين تجرم التحريض الذى يُفهم منه تحريض على نفى الآخر، وحاكمت كل من يفعل ذلك، كما حرمت مصطلح التخوين لأنه يُفهم منه دعوة الجهلاء للهجوم على الآخرين وقتلهم، حتى أصبح مصطلح القتال غير موجود فى الثقافة السياسية الداخلية للمجتمع الإسرائيلى، إلا مع عدوهم الفلسطينى. خلّد اليهود ذكرى رابين كى تكون ناقوساً يدق عندما يشتد الاختلاف بين السياسيين، وفعلوا ذلك لأنهم أدركوا أن قاتل رابين ليس «إيجال عامير»، وإنما السياسيون الذين اعتبروه فعل ما هو خارج عن مصلحة الأمة، ووصفوه بالخائن الذى يسير فى اتجاه ضد تاريخ إسرائيل، حتى قُتل على يد المتطرف المجنون. أما نحن فيسلك متطرفونا ذات المسلك الذى أهلك الأمة من قبل حين بلغت العصبية المذهبية ذروتها، وتفرقت الجموع حول مسائل فرعية فى الدين، والآن هم ذاتهم يعكسون أزمة فى بنية الفكر، وهيكلة تنظيماتهم على مستوى الأفكار والأشخاص، حين لم يسلم من فلتان لسانهم، وملاحقتهم، حتى الموتى فى قبورهم.