فيدل كاسترو.. الموت يغيب واحدا من آخر عمالقة القرن الـ20

فيدل كاسترو.. الموت يغيب واحدا من آخر عمالقة القرن الـ20
بوفاة فيدل كاسترو يغيب واحد من آخر العمالقة السياسيين في القرن الـ20، حاكم متسلط جعل من جزيرة صغيرة في الكاريبي محور اختبار قوة بين القوتين العظميين الأمريكية والسوفياتية، قبل الانسحاب من السلطة لدواعٍ صحية.
"لن أتقاعد أبدا من السياسة، السلطة عبودية وأنا عبدها"، هذا ما كان يؤكده كاسترو الذي تحدى جاره الشمالي الجبار على مدى نصف قرن قبل أن ينأى بنفسه عن الحكم اعتبارًا من العام 2006.
ومع الوقت، تحول الزعيم "صاحب اللحية" الذي كان في الـ32 من العمر حين أطاح في 1959 بديكتاتورية الجنرال فولجنسيو باتيستا، وجسد آمال اليسار الثوري، إلى حاكم متسلط يقمع المعارضة بلا رحمة ويحكم كوبا مثل رب عائلة.
وكتب عنه صديقه الكاتب الكولومبي الحائز جائزة نوبل للآداب جابرييل جارسيا ماركيز في العام 2008 "صبر لا يقهر.. انضباط حديدي.. قوة المخيلة تسمح له بقهر أي طارئ".
وفي المقابل، يطلق معارضوه عليه أوصافًا كثيرة أيضا، من دكتاتور ومهووس بالعظمة ومتسلط، حتى إن الصحفي نوربرتو فوينتيس، الذي أصبح أحد أشرس منتقديه بعدما كان صديقًا له يصفه بأنه "مسخ من الأنانية، مستهتر وعديم الأخلاق".
وبقي على خطه المتشدد الذي دفع الشعب ثمنه تضحيات فادحة، وخضع في التسعينيات لـ"فترة خاصة في زمن السلم"، وفق تعبير كان رديفًا لانقطاعات خانقة في المواد الاساسية، من غير أن يقبل يوما بتليين سياسة نظامه ولو قليلا.
- تلميذ آباء يسوعيين -
دخل ابن المهاجر الإسباني والتلميذ السابق للآباء اليسوعيين، التاريخ في الـ27 من عمره حاملًا السلاح حين حاول السيطرة في يوليو 1953 على ثاني موقع عسكري في البلاد، ثكنة "لا مونكادا" في سانتياجو، محاطًا بمجموعة من 100 مناصر.
وإن كانت العملية فشلت، وأدت إلى سجن المحامي اليشاب ونفيه، إلا أنها لم تضعف عزيمته، وبعد 3 سنوات على العفو عنه وإطلاق سراحه، باشر حرب شوارع استمرت 25 شهرًا وأسقطت دكتاتورية باتيستا، وتكللت بانتصار ثورة "أصحاب اللحى" (باربودوس) في يناير 1959.
وبات انطلاقًا من ذلك الحين، يجسد ثورة سرعان ما أبدت تقاربها مع موسكو، على مسافة أقل من 200 كلم من الولايات المتحدة، في وسط الحرب الباردة.
في 1961، عمد جون كينيدي الثاني بين الرؤساء الأمريكيين الـ11 الذين تحداهم كاسترو، إلى إنزال كوبيين معادين له في جزيرة الخنازير، لكن العملية سجلت فشلًا ذريعًا للأمريكيين وحولت فيدل كاسترو إلى بطل اشتراكي جعل من مكافحة الإمبريالية ركيزة لسياسته.
كان خطيبًا لا يكل دخل التاريخ إلى جانب كبار الثوريين أمثال لينين وماو، بسيجارة ولحيته الكثة وبزته العسكرية الخضراء الزيتونية.
تبناه نيكيتا خروتشيف، وأراد نصب صواريخ نووية في كوبا، فنشبت "أزمة الصواريخ" في أكتوبر 1962، التي قادت العالم إلى شفير نزاع ذري، وخرج منها فيدل كاسترو ذليلا ومريرًا لعدم استشارته، بعدما تم التوصل إلى اتفاق بين القوتين العظميين.
عندها عمل على نشر الثورات ودعمها في العالم الثالث، متحديا واشنطن وحتى الكرملين أحيانا، فيما غادره رفيق سلاحه أرنستو "تشي" جيفارا، للقيام بمهمة مستحيلة في بوليفيا حيث قتل عام 1967.
كان فيدل كاسترو رؤيويا أكثر مما كان إداريا، أطاح في 1968 بآخر ما تبقى من الرأسمالية الكوبية، وربط البلد بصورة وثيقة بالاتحاد السوفياتي، وفي 1975، أرسل كاسترو قواته إلى ما وراء المحيط الأطلسي في مغامرة إفريقية استمرت 15 عاما، شاركت خلالها في ساحات معارك في أنجولا وإثيوبيا.
- "قريبا ينتهي أمري" -
ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، اضطر كاسترو في التسعينيات إلى تقديم تنازلات خجولة للرأسمالية، عاد وتراجع عنها ما إن وجد حليفا جديدا في الرئيس الفنزويلي هوجو تشافيز، الذي توفي عام 2013 بعدما رفع على مدى سنوات شعلة حركة "كاسترية" جديدة.
وبالرغم من خيبة الكوبيين، بقيت شريحة كبيرة منهم وفية لكاسترو، متمسكة خصوصا بالانجازين الاجتماعيين للنظام: الرعاية الصحية للجميع ومحو الأمية. وفي هذه الأثناء واصل كاسترو الحكم بقبضة من حديد حيث نفى وسجن المعارضين.
إلا أن القرن الواحد والعشرين لم يكن قرنه، واعتبارا من 2001، اصيب بسلسلة من النكسات الصحية. ففي تموز/يوليو 2006، ارغمته عملية جراحية على التخلي عن السلطة لشقيقه الأصغر راوول، ذراعه الأيمن ووزير الدفاع منذ 1959.
وفي شباط/فبراير 2008، نقل السلطة إليه رسميا وتحول القائد الأعلى فيدل الى "جندي أفكار"، مكتفيا بنشر "تأملاته" في الصحافة الكوبية وباستقبال بعض الشخصيات التي تأتي زائرة.
وإن كان صاخبا على الساحة العامة، الا أنه كان سريا في حياته الخاصة، وله ثمانية أولاد على الأقل، بينهم 5 أبناء من داليا سوتو ديل فالي، ورفيقته التي عاش بجانبها حتى وفاته.
وفي أبريل، قال بصوت يرتجف في ختام مؤتمر الحزب الشيوعي الكوبي "قريبا ينتهي أمري مثل جميع الآخرين. دورنا سيحين، كلنا".
وتحدث عن إرث الشيوعية الكوبية، في وقت تسلك الجزيرة منذ نهاية 2014 تقاربا تاريخيا مع العدو الأمريكي السابق، في انعطافة دبلوماسية اعتمدها شقيقه ولم يعارضها يوما فيدل، حتى لو انه يذكر دوما بريبته حيال واشنطن.