البرامج الساخرة وأولويات الثورة

لا أعتقد أن ما تقدمه البرامج الساخرة تحتاجه مصر فى هذه المرحلة التاريخية العصيبة؛ فمضامين الكثير منها لا علاقة له لا بالفكاهة ولا بالحرية ولا بالثورة. وبعيدا عن نوايا القائمين عليها، فلن تؤدى هذه البرامج -لا قدر الله- إلا إلى المساهمة فى زرع قيم هدّامة فى النفوس وإفشال مسار الحرية الوليد. وفيما يلى خمس ملاحظات سريعة: 1- لا يعنى هذا أننى ضد انتقاد الرئيس؛ فعلى العكس تماما يجب زرع ثقافة النقد البنّاء، وهدم أسطورة المسئول الذى لا يخطئ. بل إن الاعتراض على أخطاء السلطة حق وواجب وطنى. لكن للمعارضة فى أى مكان فى العالم أشكالا كثيرة، بدءاً من الإعلام وتنوير العقول، مروراً بالأحزاب وتقديم البدائل، وانتهاءً بالتظاهرات والإضرابات. ولكل هذه الأشكال ضوابط (ولى قيود)؛ فعلى الأحزاب الاجتهاد فى تقديم البدائل وقراءة الواقع وحساب المكسب والخسارة، وعلى المتظاهرين والمضربين أن يتجنّبوا الإضرار بالقطاعات الحيوية بالدولة، وبالنسبة للإعلام فيجب أن يكون مهنيا وألا يُسيس ويدخل طرفا فى معركة سياسية، ولا يجب أن يكون انتقائيا، وينبغى أن تكون هناك شفافية فى تمويله، وأن يحافظ على قيم المجتمع وتقاليده. 2- للحرية -التى هى حق مقدس للبشر- ضوابط أخلاقية وقيمية فى كل مكان. هذه الضوابط ضعيفة جدا عندنا ولم نستطع حتى الآن الاتفاق عليها. وبالقضاء مشكلات أخرى، وهو الجهة المفترض أنها تحمى الضعفاء وتفصل فى المنازعات. 3- لا يعنى انتقاد هذه البرامج أن الحل هو تكميم الأفواه. وقد كتبت منذ اليوم الأول للثورة أن مشاكلنا سياسية بالأساس ولا يمكن حلها لا بالقمع الأمنى، ولا بتكميم الأفواه، ولا بعقد الصفقات مع الجيش، ولا بالتحالف مع قوى أجنبية، فهذه أدوات النظام السابق التى أصبحت غير صالحة الآن. إننا نحتاج إلى حلول سياسية على طاولة حوار حقيقى وبتنازلات متبادلة من أطراف لديها قدر من الوعى والمعرفة بحالات الانتقال المشابهة وإحساس بالمسئولية التاريخية، وقادرة على تنحية الأجندات الضيقة لصالح الأجندة الوطنية. ونحتاج إلى فرق عمل علمية (تشكل بعيدا عن الانتماءات السياسية والحزبية) لإصلاح جميع القطاعات (الشرطة والقضاء والإعلام والجهاز الإدارى والتعليم...). 4- هناك أولويات فى كل مرحلة تاريخية. وبالنسبة للإعلام (المعارض والمؤيد للسلطة)، الأولويات هى تثقيف الجماهير وتوعيتهم ومدهم بالحقائق لمساعدتهم على تكوين رأى حر، وليس دفعهم دفعا إلى رأى محدد. بجانب زرع قيم بنّاءة والتخلص من كل القيم الهدامة التى زرعت فى عقولنا عبر عقود. وما نراه فى إعلامنا هو خلط بين معلومات صحيحة ويجب أن يعرفها الناس وبين الكثير من المبالغات والشائعات، هذا بجانب الانتقائية وتصيد الأخطاء والألفاظ السوقية والخارجة. 5- فى الأمم الحية وأثناء مراحل التغيير التاريخية على الجميع (فى الإعلام والسلطة والمعارضة) الارتقاء إلى مستوى المسئولية والتدبر فى عواقب الأقوال والأفعال، وعليهم المساعدة فى زرع الثقة والأمل وفى تصويب الأخطاء وتقديم البدائل. والمسئولية الكبرى تقع على عاتق السلطة التى عليها نزع فتيل الأزمة وإجراء مصالحة وطنية شاملة على قاعدة مشاركة القوى الرئيسية فى الحكم لإنقاذ مصر وتسخير جميع الجهود لدعم مسار الانتقال الصعب. والله أعلم.