فى تهافت الساسة والخطاب السياسى
منذ اليوم الأول لالتحاقى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ودائماً ما كان يقال أمامى: «إن السياسة لعبة قذرة، ومن العسير أن يسلم الشرفاء من قذارتها»، ولكننى كنت -وما زلت- أدافع عنها كأحد فروع العلوم الاجتماعية التى تدرس فى معظم الجامعات العريقة، بهدف تسهيل عملية إدارة المجتمعات وتنميتها، والسعى لتحقيق أهداف الرفاهية الاجتماعية «Social welfare»، أى رغد الخصب ولين العيش بالنسبة للمجتمع فى مجموعه، بأفضل النتائج وبأقل التكاليف. وعادة ما كنت أبدأ دفاعى عن شرف علم السياسة فى مثل هذه السجالات بالعودة إلى لغتنا العربية الجميلة التى تحمل الكثير من الدلالات والمضامين القيمة لأصل الكلمة المشتقة من سَاسَ ويَسُوسُ، وتعنى تدبير شئون الناس وتملّك أمورهم، فيقال: «سَاسَ زيد سياسةً» أى أمر وقام على الشىء بما يصلحه. فضلاً عن ذكر تعريفى الاصطلاحى المفضل لعلم السياسة دون غيره من التعريفات المتعددة، بأنها ذلك العلم الذى يدرس فن الحكم وفن إدارة الصراع. وبهذا يكون من أهم شروط السياسى الناجح الجمع بين شخصيات العالِم والفنان فى جسد واحد، حتى يكون قادراً على فتح آفاق العقل لفهم الترابط بين أجزاء العملية السياسية المتشابكة، والتعامل مع الأحداث والمواقف بنظرة واقعية وبطرق حكيمة وبلغة راقية، كمقدمة ضرورية لاتخاذ القرار بشأن التحرك السياسى الملائم.
ومع ذلك، وبالرغم من مرور صور لنماذج كثيرة من الساسة الشرفاء على مدار تاريخنا المعاصر أمام عينى الآن، لا أخفى على حضراتكم بداية تسلسل مشاعر اليأس والإحباط إلى قلبى، يوماً بعد يوم، بشأن إمكانية وصول مجتمع ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير إلى هذا النمط من النشاط السياسى الذى يستهدف الخير العام أو الصالح العام، ويسعى إلى الارتقاء بأحوال البلاد والمجتمع ككل، خاصة مع تزايد التداخل الواضح بين حدود الخاص والعام فى العديد من الممارسات المرتبطة بمن يتصدرون المشهد السياسى، وإدارة كثير من الأنشطة والمواقف والخطابات السياسية التى يفترض أن يحكمها الصالح العام من جانب أغلب الساسة، سواء كانوا أفراداً أو جماعات، بمنطق المصلحة الشخصية أو المنافع الضيقة الخاصة بأعضائها.
فحينما تكون لغة المؤامرات والقردة والأصابع الخارجية من أبرز مفردات الخطاب السياسى لقادة الموالاة، وحينما تكون لغة التخوين والخرفان والملابس الداخلية من أهم مكونات الخطاب السياسى لقادة المعارضة، وحينما يتم تسخير ساعات وبرامج إعلامية كاملة فى قنوات ذات توجهات ليبرالية وإسلامية مختلفة لمتابعة تفاصيل نزاعات وصراعات شخصية لا طائل من ورائها، يستخدم فيها كل قواميس ومعاجم البذاءات التى قد نسمعها فى سيمفونيات الردح الشعبى بالحوارى والأزقة، وحينما يكون حشد الشارع فى مواجهات دموية عنيفة هو التكتيك الأسهل والأكثر شيوعاً بين معظم قادة العمل السياسى، فمن الضرورى أن يقل الأمل فى الوصول إلى السياسة الأخلاقية القائمة على خدمة الدولة وليس حب مناصبها، لأن السياسى الحقيقى هو الذى لا يتجاهل أوامر الضمير الإنسانى فى كل أقواله وأفعاله، ولا يحب إلا الوطن الذى يعد رمزاً للقيم الأخلاقية والدينية التى تتجاوز فكرة وجود الدولة فى حد ذاتها.
ويبدو أن الفيلسوف والشاعر اللبنانى جبران خليل جبران كان سباقاً فى وصف هذا التهافت السياسى وتداعياته على مستقبل الأمم ببراعة فائقة فى كتابه «حديقة النبى» عام 1933، وذلك حينما قال: «ويلٌ لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد. ويلٌ لأمة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودعة بالصَّفير، لتستقبل آخر بالتطبيل والتزمير. ويل لأمة حكماؤها خرس من وقر السنين، ورجالها الأشداء لا يزالون فى أقمطة السرير. ويل لأمة مقسمة إلى أجزاء، وكل جزء فيها يحسب نفسه أمة!».