الحكومة والمنظمات «الممولة» إيد واحدة!!

مصطفى بكرى

مصطفى بكرى

كاتب صحفي

من حق المنظمات الممولة من الخارج أن تغضب وأن يعلو صوتها وأن تستقوى بالدول التى تمدها بالأموال، ولكن لماذا تعلن الحكومة المصرية رفضها للقانون وتعلن مقاطعتها له، ثم جاءت الآن وبعد موافقة المجلس لتعلن أنها تقدمت بتعديلات تراها ضرورية وتطلب إعادة المداولة؟!!

والحديث هنا عن مشروع قانون الجمعيات الأهلية الجديد، المقدم من الدكتور عبدالهادى القصبى رئيس لجنة التضامن بالبرلمان و203 نواب، واعترضت عليه وزيرة التضامن الاجتماعى، ومعها الحكومة، وقاطعت حضور مناقشاته تحت قبة البرلمان، رغم كل الجهود التى بذلها رئيس المجلس د. على عبدالعال!!

والحكاية، ببساطة، أن وزارة التضامن الاجتماعى أعدت منذ فترة مشروعاً لقانون يتضمن تعديلات عديدة على قانون الجمعيات 84 لسنة 2002، ظل القانون حبيس الأدراج فترة طويلة من الوقت، وعندما تم إخراجه إلى النور، كان النواب، وتحديداً لجنة التضامن، قد أعدوا قانوناً يضع ضوابط التمويل الأجنبى ويغلظ العقوبة على المتجاوزين، وهذا مربط الفرس.

لقد تقدمت اللجنة بمشروع القانون بعد عدة أشهر من الإعداد والنقاش، وبدا الأمر وكأن الحكومة قد فوجئت به، وبدأنا نشهد صراعاً علنياً بين المجلس والحكومة، ودار جدل صاخب تحت قبة البرلمان بين الطرفين، وصل إلى حد أن ممثل الحكومة المستشار مجدى العجاتى وزير الدولة للشئون القانونية والبرلمانية طالب بوقف المناقشات لحين عرض مشروع الحكومة جنباً إلى جنب مع مشروع النواب للنقاش.

لقد رفض النواب وبإصرار شديد هذا الموقف، وتساءلوا أين كانت الحكومة طيلة الفترة الماضية، ولماذا تحاول عرقلة مشروع النواب، وهو حق أصيل لهم بمقتضى المادة 101 من الدستور.

لقد عانت مصر الأمرّين طيلة السنوات الماضية من تداعيات ومخاطر التمويل الأجنبى دون ضوابط لعدد من المنظمات العاملة فى مصر، ويكفى ما أعلنته لجنة تقصى الحقائق المصرية للتحقيق فى التمويل الأجنبى فى الفترة من فبراير إلى نوفمبر 2011 حيث قالت إن جملة ما تم صرفه على مليونيات الفوضى صاحبة شعار «يسقط حكم العسكر» بلغ ملياراً ومائتى مليون جنيه.

لقد رصدت الدكتورة فايزة أبوالنجا، التى كانت وزيرة للتعاون الدولى فى هذه الفترة، جميع اختراقات المال الملوثة بآلياته المختلفة للأمن القومى والعبث بمقدرات البلاد وحذرت مبكراً من خطورة الصمت الحكومى على هذه التجاوزات، وطالبت بضرورة وجود ضوابط حاكمة لهذا التمويل ولقيم الشفافية والإفصاح التى ظلت غائبة عن هذا القانون طيلة الفترات الماضية.

ومن الواضح هنا أن مشروع القانون الجديد كشف عن تردد الحكومة وأكد مخاوفها، فهى تنظر لرد الفعل الخارجى أكثر من نظرتها لدواعى الأمن القومى ومتطلباته فى الداخل، ومن الغريب أن يلتقى الطرفان، المنظمات الممولة من الخارج والحكومة، على قلب رجل واحد.

لقد شهدنا للمرة الأولى غزلاً صريحاً من هذه المنظمات للمشروع المقدم من الحكومة، وهنا أقول «الحكومة» وليس فقط وزارة التضامن الاجتماعى، حتى إن هذه المنظمات طالبت بضرورة اعتماد مشروع الحكومة بدلاً من مشروع النواب، لأنه يلبى الكثير من متطلباتها..

إن الخلاف هنا يتركز فى نقطتين أساسيتين:

- تبنى مشروع «النواب» فى المادة (70) ضرورة إنشاء جهاز قومى يسمى «الجهاز القومى لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية» يتبع رئيس مجلس الوزراء وتكون له شخصية اعتبارية، وتنشأ له مكاتب فى المحافظات الأخرى ويتولى البت فى كل ما يتعلق بتأسيس وعمل ونشاط المنظمات الأجنبية غير الحكومية فى مصر، وكل صور تعاونها مع المؤسسات والجهات الحكومية وغير الحكومية داخل البلاد والتمويل الأجنبى للجمعيات والمؤسسات الاجتماعية ويصدر تشكيله بقرار من رئيس الجمهورية برئاسة رئيس متفرغ بدرجة وزير وعضوية ممثلين للوزارات والجهات المعنية ومنها ممثلون لوزارات الخارجية والدفاع والعدل والداخلية والتعاون الدولى والوزارة المختصة، وممثل للمخابرات العامة وممثل للبنك المركزى وممثل لوحدة غسل الأموال وممثل لهيئة الرقابة الإدارية ويكون للجهاز أمانة عامة تكون برئاسة أمين عام متفرغ وعدد العاملين المؤهلين.

أما وزارة التضامن فإنها ترفض إنشاء هذا الجهاز وتتمسك باللجنة التنسيقية برئاسة الوزيرة.. وهى لجنة تخلو إلى حد كبير من العناصر الرقابية المعنية بالتمويل الأجنبى وكذلك الحال لا توجد لديها آلية لضبط التمويل ومراقبته، ومن عجب أن المنظمات الممولة التى كانت ترفض «اللجنة التنسيقية» من قبل، عادت وراحت تطالب بها الآن.

إن الغريب فى الأمر أن وزارة التضامن ضمنت ملاحظاتها للمجلس، اعتراضها على الجهاز القومى لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية.

- وإما أن الوزيرة تريد هذا الجهاز تحت قبضتها هى، وتجعل مهمته قاصرة على المتابعة السطحية دون قدرة أو آلية لاتخاذ القرار وهذا أيضاً أمر غريب!!

- أما الخلاف الثانى فهو يدور حول مقترح مشروع قانون النواب «لجنة التضامن» الذى تضمنته المادة 87 من المشروع والذى يفرض عقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه لكل من أنشأ جمعية ثبت أن حقيقة أغراضها ممارسة الأنشطة المحظورة، وكل من تلقى أموالاً من جهة أجنبية أو قام بجمع التبرعات بالمخالفة لأحكام هذا القانون.

- أما مشروع الحكومة فإنه يرفض عقوبة الحبس، ويقصر العقوبة فقط على الغرامة من 50 ألفاً إلى مليون جنيه، وهو أمر من شأنه المساعدة فى خرق القانون، وإغراء الآخرين لارتكاب جرائم التمويل دون إذن أو ضابط وممارسة الأنشطة المحظورة، وفى النهاية لن يعاقب إلا بغرامة يدفعها من الأموال التى تتدفق إلى جيبه!!

من هنا يبدو السؤال: لماذا تصر الحكومة على هذه «الميوعة» فى قانون يعد من أخطر القوانين التى تمس الأمن القومى وتبذل قصارى جهدها الآن لإثناء مجلس النواب عن مشروعه الذى لم يبقَ أمامه سوى الموافقة النهائية.

لقد تضمن هذا القانون مميزات مهمة، ودعم قيم الشفافية والعلانية والإفصاح فى عمل الجمعيات، ونص على التزامها إعلان مصادر التمويل وأسماء أعضاء الجمعية العمومية وميزانيتها السنوية وأنشطتها والالتزام بنشرها على الموقع الرسمى لها وعلى الموقع الإلكترونى للوزارة المختصة، فماذا يضير الحكومة فى ذلك؟!

«من ينتصر فى هذه المعركة؟».. إنه السؤال الذى بات يتردد فى كل مكان بالداخل والخارج، ذلك أن هذه المعركة ستكون لها آثارها الخطيرة حاضراً ومستقبلاً، فإمّا دفاعاً عن الأمن القومى ورفض الاختراق لهذا البلد، وإما فتح الطريق واسعاً للتجسس والتآمر باسم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.