السوريون واليمنيون «تحت رحمة الحانوتية».. ونبش «رُفات» السودانيين

كتب: محمود عبدالرحمن

السوريون واليمنيون «تحت رحمة الحانوتية».. ونبش «رُفات» السودانيين

السوريون واليمنيون «تحت رحمة الحانوتية».. ونبش «رُفات» السودانيين

استقر أحمد جبارى، يمنى، للعيش فى مصر منذ عام 1992م، بعد أن ترك وظيفته كمدير مالى بأحد قطاعات الدولة اليمنية، واصطحب أسرته للعيش فى مدينة السادس من أكتوبر، ومنذ ذلك التاريخ، أصبح مقصداً لجميع من يأتى من اليمن إلى مصر، خاصة من يجىء للعلاج، ونظراً لتعامله المستمر مع المرضى اليمنيين، أصبح من مسئولياته البحث لمن يتوفى منهم عن مقبرة تتسع لجسده، واستخراج الأوراق والتراخيص اللازمة لذلك، لعدم دراية أهالى المتوفين من اليمنيين بالقطاعات الرسمية فى مصر، واقتصار مجىء بعضهم إلى مصر فى هذه المرة فقط لمصاحبة مرضاهم فى تلقى العلاج، لذلك يكون من الصعب عليهم التعامل مع آليات الدفن فى مصر، وإنهاء الأوراق المطلوبة خلال ساعات قليلة.

{long_qoute_1}

يقول «الجابرى» إنه فى عام 2004، توفى أحد أقاربه، وكان عليه أن يقوم بدفنه فى مقابر القاهرة، بدلاً من تسفيره إلى اليمن مرة أخرى، لصعوبة الإجراءات من ناحية، وعدم قدرة ذويه على دفع نفقات نقل الجثمان من ناحية أخرى، وهنا اصطدم بالإجراءات اللازمة لاستخراج ترخيص الدفن وشهادة الوفاة، لعدم وجود أوراق ثبوتية للمتوفى وهو ما يتطلب إجراءات عديدة قد تستغرق لبعض الأيام حتى تتم عملية الدفن، مما دفعه للإبقاء على الجثة فى ثلاجة المستشفى، حتى أشار عليه أحد العاملين فى المستشفى للتواصل مع «س. أ»، حانوتى معروف فى مقابر الفسطاط فى مصر القديمة، دائم التردد على المستشفى، وبعد تواصله معه، فوجئ بوصول أحد أبناء الحانوتى إلى المستشفى وحمله للجثة بعد أن أنهى إجراءات دفنها خلال دقائق قليلة، ثم طلب الحصول على مبلغ ألف جنيه، تشمل «غُسل، كفن، تكاليف استخراج ترخيص الدفن وشهادة الوفاة»، وقام بدفن الجثة فى إحدى مقابر الفسطاط الخيرية «مقابر وقف»، ونظراً إلى عدم نظامية اللحود، سرعان ما اختفت معالم المقبرة، ولم يتمكن هو وباقى أقارب المتوفى من الذهاب لزيارته مرة أخرى، فآثروا البقاء فى منازلهم والدعاء له، للبعد عن جشع شحاذى المقابر الذين يستغلون ذهاب أبناء الجاليات لزيارة أقاربهم ويحاولون الحصول على أكبر قدر ممكن من أموالهم تحت مسمى «الصدقات».

«المغتربون فى مصر صيد سهل للحانوتية والسماسرة، لأن هما اللى عارفين تفاصيل الورق وأماكن المقابر، واحنا مش بنلاقى قدامنا غير التعامل معاهم، علشان نلحق ندفن الجثث، لأن إكرام الميت دفنه، ولو معملناش كده مش هيكون قدامنا بديل تانى غير إننا نلف على مكاتب الأوراق وبعدين ندور على مقبرة»، يستطرد الرجل الخمسينى أن السفارة اليمنية فى مصر، قامت عام 2011 بشراء مساحة أراض كبيرة فى صحراء مدينة 6 أكتوبر وتخصيصها كمقابر لليمنيين، لمنع حالة الاستغلال التى يتعرض لها أهالى المتوفى اليمنى على يد سماسرة الدفن فى مصر، وبديلاً عن المقابر الخيرية التى يستلزم الدفن فيها بقاء المتوفى فى الثلاجة لعدة أيام لحين التواصل مع مسئول الجمعية وتخصيص مقبرة له، مما يستلزم ضرورة التعامل مع «التربية» الذين يتعاملون بمنطق التجارة وتحقيق الربح، أكثر من تعاملهم بشكل دينى أو إنسانى، وعلى الرغم من مساهمة هذه المقابر فى حل أزمة اليمنيين الموجودين فى محافظتى القاهرة والجيزة، إلا أن عدداً كبيراً من سكان المحافظات فى الوجهين البحرى والقبلى لا يزالون يعانون عند وفاة أحد أقاربهم لصعوبة المجىء بالمتوفى من المحافظات إلى مدينة 6 أكتوبر، نظراً لانتشار الأكمنة الأمنية على الطرقات، فلا يكون أمامهم سوى الانتظار لحين قيام أحد المصريين بالتطوع بدفن جثة اليمنى المتوفى.

فى عام 1955 جاء جد أحمد أبوبكر لوالده، إلى مصر للانضمام إلى قوات حرس الحدود، التى قضى فيها ما يقرب من 21 عاماً كاملة، وبعد بلوغه سن المعاش، رفض العودة مرة أخرى إلى السودان موطنه الأصلى، واستقر فى القاهرة، بعد تخصيص الجهات المصرية له سكناً ومعاشاً دائماً نظراً لخدمته فى القوات المسلحة المصرية لعشرات السنوات، وبعد وفاته، حمله أفراد أسرته إلى المدافن المخصصة للسودانيين فى الجبل الأصفر، وظلت عائلته تتردد على قبره لزيارته، حتى ما يقرب من 6 أشهر، عندما أخبرهم أحد السودانيين بأن الدولة المصرية أعلنت عن مزاد علنى لبيع أراضى المقابر الموجودة فى الجبل الأصفر، وتخصيصها لمشروعات استثمارية، على الرغم من ملكيتها للجمعيات السودانية منذ عشرات السنين.

يقول أحمد أبوبكر، مهندس كمبيوتر، إنه تم بيع جزء كبير من تلك الأراضى المملوكة للجمعيات السودانية، وتعرض عدد كبير جداً من القبور للنبش باستخدام اللوادر وآلات الحفر الثقيلة، على يد ملاكها الجدد، الأمر الذى دفع السودانيين للتجمهر والاشتباك مع قوات الشرطة الموجودة فى الأراضى، فأوقفت أجهزة الدولة المصرية الوضع على ما هو عليه، فحصلت الشركات الجديدة على مساحة من القبور، والجزء المتبقى ظل فى حيازة بعض الجمعيات السودانية الخيرية، التى تعانى حالياً من شدة الضغط على المقابر الموجودة فيها بعد تقليص مساحتها إلى أقل من الربع، دون أن يكون لديها بديل آخر كإمكانية بناء مقابر حديثة أو شراء قطعة أرض جديدة فى نفس المنطقة المخصصة لذلك.

المشكلة الرئيسية التى تقع عند حدوث الوفاة تتمثل -من وجهة نظر الشاب الثلاثينى- فى تأخر عملية الدفن لعدة أيام وبقاء الجثمان فى ثلاجة المستشفى لحين إيجاد مقبرة «صدقة» توارى جسد المتوفى، خاصة لدى السودانيين الموجودين بجوار جمعيتى العاشر من رمضان والسادس من أكتوبر، وفى بعض المحافظات، فى ظل استمرار عدم البدء فى بناء مقابر السفارة السودانية فى القاهرة، التى قامت بشرائها فى مدينة العاشر من رمضان، دون أن يتم تفعيلها حتى الآن.

إذا كنت لاجئاً سورياً تعيش فى مدينة العبور التابعة لمحافظة القاهرة، فسوف تكون أمامك الفرصة سانحة للحصول على مقبرة مجانية، ضمن مجموعة المقابر الخيرية التى أقامها أحد الأثرياء السوريين الموجودين فى مصر بشرائها فى «العبور»، ووهبها لدفن موتى السوريين من سكان المنطقة، والمناطق المحيطة بها، بعد التنسيق مع القائمين عليها، طبقاً لما ذكره فراس الحاج، مواطن سورى يعيش فى القاهرة، الذى أضاف أن السوريين الموجودين فى مدينة 6 أكتوبر يلجأون إلى الجمعية الشرعية فى المدينة للحصول على الأكفنة اللازمة لموتاهم بالمجان، ومن ثم الانتظار لحين قيام المسئولين فيها بتوفير مقبرة «صدقة»، وفى محافظات مصر المختلفة يلجأ أهالى المتوفى السورى إلى أهل الخير والجمعيات الخيرية، الذين يُشتهر عنهم تبرعهم لصالح إكرام دفن الموتى وتحمل النفقات الخاصة بذلك، الأمر الذى قد يتسبب فى بقاء الجثة داخل ثلاجة الموتى بالمستشفى لعدة أيام.

يُضيف «فراس» أن إمكانية قيام اللاجئ السورى بشراء مقبرة خاصة له ولأسرته فى مصر، متوافرة بشروط، تتمثل فى ضرورة الحصول على إقامة رسمية نظامية، والتقدم بطلب إلى الجهات الرسمية التى لا تمانع فى حالة توافر الأوراق الثبوتية الرسمية، ولكن هذا لا يحدث كثيراً، نظراً للحالة المادية السيئة التى يعانى منها غالبية اللاجئين السوريين الموجودين فى مصر، وعدم تفعيل قرار تمليك الأراضى لغير المصريين إلا فى أضيق الحدود، وما يتعلق بالاستثمار، وفى غير ذلك يُشترط الموافقات الأمنية قبل أى شىء.

وعن تعقيدات استخراج الأوراق الرسمية اللازمة للدفن، قال الشاب الثلاثينى، إن العائق الأكبر يتمثل فى طول الوقت اللازم للحصول على الأوراق الرسمية، التى تبدأ بحصول أهالى المتوفى على شهادة وفاة من المستشفى، وتصديقها من قبل مديرية الصحة التابعة لها، وفى اليوم التالى يذهب بها أحد أقارب المتوفى من الدرجة الأولى إلى السفارة السورية فى القاهرة، للتصديق على أوراق الوفاة، مع ضرورة تقديم جوار السفر لـ«كنسلته»، ومن ثم الحصول على إذن الدفن، وبعدها يتم الرجوع إلى المستشفى لاستخراج الجثة والذهاب بها إلى مقابر الصدقات لدفن الجثة، مع ضرورة الأخذ فى الاعتبار ضرورة إكرام «التربى» والذين معه من عمال المقابر، من أجل تسهيل إتمام الدفن، وفى حالة حدوث غير ذلك، تتم إعاقة بدء الدفن لحين إجبار أهالى المتوفى على الدفع.

الوضع عند «م. ن»، لاجئ سياسى من كوت ديفوار، يعيش فى مصر منذ 14 سنة، يختلف عن سابقيه، نظراً للظروف الحياتية الصعبة التى يعانى منها والتى تتمثل فى عدم قدرته على شراء الطعام والشراب والعلاج، لذا فهو لا يهتم بتفاصيل ما بعد الوفاة، قدر اهتمامه بالحصول على احتياجاته اليومية، ودفع إيجار الغرفة التى يسكن فيها فى أحد شوارع حدائق القبة، البالغ 400 جنيه شهرياً، والانتظار كل عام من أجل تجديد البطاقة الصفراء التى يحصل عليها من مكتب المفوضية السامية لشئون اللاجئين فى مصر، لضمان عدم ترحيله، لكونها الورقة النظامية الوحيدة التى تضمن بقاءه فى مصر، لكونه لاجئاً سياسياً، وليس هارباً من الحروب والثورات.

يقول الشاب الثلاثينى، الذى يعمل فى بيع الخردوات أعلى محطات المترو وفى الشوارع العامة، إنه مسيحى الديانة، يذهب للصلاة فى الكنيسة من وقت إلى آخر، يجلس مع أحد خدامها للاستماع إلى نصائحه الدينية والدنيوية، والحصول على مبالغ مالية من خزنة الكنيسة على سبيل الصدقة، ونظراً لكون أعداد أبناء جاليته فى مصر قليلاً، مما يعنى أنهم يعرفون بعضهم البعض بصورة جيدة، لذلك فعند حدوث الوفاة لأحدهم يقوم أى شخص آخر بالذهاب إلى الكنيسة وإبلاغهم بالأمر، وعلى الفور يقوم أحد خدامها بتوفير كل ما يحتاجه المتوفى، بداية من الأوراق المطلوبة، التى تمثل عائقاً كبيراً، نظرا لكونهم لاجئين سياسيين، وحتى دفن الجثمان فى المقابر الموجودة على طريق الفيوم الصحراوى، التى توجد فيها جثامين غالبية اللاجئين الأفارقة فى مصر من الأقباط.

«بعضنا تعرض للوفاة وهو فى غرفته، دون أن نعرف عنه شيئاً لعدة أيام متواصلة، الأمر الذى دعانا لإبلاغ الشرطة دون الإفصاح عن أسمائنا، خوفاً من التحقيق فى القضية، واتهامنا بقتله، وهو ما يعنى احتمالية ترحيلنا»، يستطرد الرجل الأربعينى، وفى تلك الحالة تقوم أجهزة الأمن بتولى مسئولية دفن الجثة، بعد الانتظار لعدة أيام لحين تقدم أى منا لاستلام الجثة، ونظراً لحالة الخوف الشديدة التى تلاحقنا فى مثل تلك الحالات، والتى تدفعنا لعدم الذهاب إلى أقسام الشرطة، تقوم الأجهزة الأمنية بعملية الدفن دون أن نعرف مكان الدفن أو موعده.


مواضيع متعلقة