هاشم النحاس.. عطاء متجدد
فى عام ١٩٧٢، يقدّم المخرج هاشم النحاس فيلمه «النيل أرزاق» ليفتح -مع فيلم «حصان الطين» لعطيات الأبنودى- صفحة جديدة فى تاريخ السينما التسجيلية المصرية.. فى «النيل أرزاق» يُصوِّر «النحاس»، بحس شاعرى عذب، مجموعة من «الغلابة» اختاروا الماء سبباً للحياة ومورداً للرزق، اختلفت مِهَنَهم وجمع بينهم الكد والعناء والشقاء!
تتميز سينما «النحاس» بأسلوب خاص يتسم بالعشق للإنسان والمكان («الناس والبحيرة» ١٩٨١/ «البئر» ١٩٨٢)، الإنسان المصرى البسيط «المنسى» كما يحب أن يسميه، الذى يبنى الحياة ويحقق نوعاً فريداً من البطولة، الإنسان العادى الذى يعمل وينتج رغم قسوة الظروف.. تنشغل كاميراته برصد التفاصيل.. الوجوه المكدودة والأيادى الخشنة والأقدام العارية («النيل أرزاق» ١٩٧٢/ «أيادٍ عربية» ١٩٧٥/ «فى رحاب الحسين» ١٩٨١)، ويتابع فى معظم أعماله، رحلته مع هؤلاء البسطاء فى حياتهم اليومية، كلهم فى حالة عمل، ينسجون ملحمة البقاء («الخيامية» ١٩٨٣/ «أبوأحمد» ١٩٨٣).. ونلمح فى أفلامه ذلك الاقتراب الحميم من هؤلاء البشر، يحتضنهم، ويحنو عليهم، يبرز ملامح قوتهم فى مواجهة قسوة الواقع.. يقول هاشم النحاس عن منهجه فى التناول: «لا أحب أن أركز على مرارة الواقع.. المرارة الحقيقية فى نظرى أن يفقد الإنسان ذاته، والإنسان المصرى لم يفقد ذاته حتى الآن رغم كل الحصار المضروب وكل الإعصارات التى تجتاحه.. وأملى أن أقف بجانبه فى صموده بالكشف عن مواطن قوته.. أريد أن أُطلع الناس على أفضل ما فيهم.. أن أؤكد أن الإنسان العادى الذى لم يذهب صيته بين الناس، المغمور، والمنسى هو بطل يستحق أن تُخرج عنه الأفلام».. كما يكتسب المكان عنده خصوصية وخصوبة («توشكى» ١٩٨٢/ «سيوة» ١٩٨٦) تكشفان عن عمق العلاقة بين البشر والأرض وتُفصح أعماله عن رؤية اجتماعية متقدّمة تجنح إلى رصد الواقع ووصفه فى محبة وألفة، وحساسية فائقة، وقد حظيت معظم هذه الأفلام بالتقدير، وحصدت عشرات الجوائز من المحافل المحلية والعربية والدولية.
ربما لا يقل تأثير هاشم النحاس النقدى والثقافى عن دوره المرموق ومكانته الرفيعة فى مجال السينما التسجيلية، فقد أثرى المكتبة السينمائية بالعديد من الكتب مؤلفاً ومترجماً وباحثاً، وأسهم بفعالية فى نشاطات المجتمع المدنى، مشاركاً فى تأسيس أهم الجمعيات السينمائية فى مصر منذ عام ١٩٦٠ ميلاد «جمعية الفيلم» أقدم وأعرق جمعيات السينما، مروراً بـ«جماعة السينما الجديدة» و«جمعية نقاد السينما المصريين» و«اتحاد السينمائيين التسجيليين والعرب».
منذ أربعة أيام، وفى السابع والعشرين من هذا الشهر (مارس) أكمل هاشم النحاس عامه السادس والسبعين -متّعه الله بالصحة والعافية وأضاء نور عينيه- أمضى منها ما يزيد على الخمسين عاماً فى محراب السينما متذوّقاً رهيفاً وناقداً قديراً ومخرجاً مبدعاً ومترجماً دقيقاً وباحثاً دؤوباً وأستاذاً أميناً ومفكراً سينمائياً رصيناً، ونموذجاً مُشرِّفاً فى لجان التحكيم بالمهرجانات على المستوى الوطنى والقومى والدولى، وقوةً دافعةً لأجيالٍ تالية، مع خُلق رفيع وأفق رحب، وتواضع جم، متسماً بسماحة الصدر وهدوء الأعصاب وإيمان بحق الاختلاف واحترام الرأى الآخر.
هاشم النحاس واحد من البنائين الكبار «الشقيانين» كأبطال أفلامه التى سوف تظل مكتسبة أهميتها -إلى جانب قيمتها الفنية- لارتباطها الدائم، بتصوير البسطاء الكادحين، ملح الأرض -لا المشاهير- وتقديم صورتهم على الشاشة، مُعلياً من شأن العمل، وهو يتابع رحلة كدّهم، وهم ينشدون نشيد الحياة.
هاشم النحاس -أطال الله عمره- عطاء دائم.. متجدد..