اليوم التالى.. ما بعد الموصل والدولة الإسلامية

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

أول ما لفت الانتباه، بعد ساعات من انطلاق ما سمى بـ«معركة تحرير الموصل»، أن التسمية فى حد ذاتها بها مساحة كبيرة من الضبابية، بالنظر إلى كم القوات المعدة لخوض تلك المعركة ومرجعياتها، فضلاً عن حجم التناقضات وشراسة الصراع فيما بينها، وهما عاملان ينسفان أى قدر من اليقين الواجب توافره قبل الضغط على الزناد، وسيتحكم هذا الضباب بسير الحركة فى الميدان ليس هناك شك فى ذلك، بل بدا أن تلك الأطراف المصطفة للتقدم ناحية الموصل، تجتمع على رهان واحد، أن يتمكن كل طرف من استثمار ضبابية الرؤية جراء غبار المعركة المتوقع، للوصول وتحقيق أهدافه من هذه المعركة، والأطراف التى أعلنت عن نفسها على الأقل هى الولايات المتحدة ومعها قوات التحالف الغربى، وتركيا منفردة، وميليشيات الحشد الشيعى ومن خلفها إيران بالضرورة، ويسبقهم أصحاب الأرض الافتراضيون جيش الدولة العراقية وقوات البشمركة الذراع العسكرية للإقليم الكردى العراقى.

المراجعة السريعة لأوراق كافة تلك الأطراف وطموحاتها الاستراتيجية على هذه الساحة، تدفعنا إلى تصحيح أولى واجب للتسمية من «حرب تحرير الموصل» إلى «الحرب على الموصل»، وهو ما قد يكون مساعداً واقعياً لتبين ملامح اليوم التالى، الذى ظهر أول معطياته بالفعل متمثلاً فى طى ما سمى بمشروع الدولة الإسلامية، فبنيان التنظيم المسلح على مساحات شاسعة من أرض العراق وفق تلك التسمية، قد تصدع تماماً، وما بعد الموصل ستشهد عودة التنظيم لتسمية «داعش»، وهى عودة ربما تكون أكثر شراسة وأعقد فى سبل المواجهة، فالتنظيم بمخططيه الاستراتيجيين قادر وببراعة على قراءة معادلات التناقض ما بين الأطراف التى تقف اليوم معلنة الحرب عليه، وهو لم ينجح فى تشكيل دولته المزعومة بداية إلا باللعب الماهر على تلك التناقضات، والقدرة على التمركز فى مفارق وتقاطعات مسار تلك المصالح المتنافرة، ولن تعجزه القدرة فى المستقبل على ممارسة هذا الدور، وإن كان سيلعبه من منصة مغايرة، المرشح فيها أن ينزل تحت الأرض ويعود ليحتل فراغات العمل السرى، لذلك هو سيبقى رقماً فاعلاً لليوم التالى فترة ليست بالقصيرة، واستناداً منه على مكونه السورى والمرشح مشهد تأزمه للتمدد المستقبلى، وهذا الأخير مثل أحد أشكال ذكاء التنظيم الاستراتيجى، فهو لم يلق بكل أوراقه على ساحة على حساب الأخرى، بل كان منتبهاً منذ بداية تشكيل مشروعه، أن كلتا الساحتين العراقية والسورية ستلعبان لاستيعاب أى خسائر محتملة فى أى منهما، وقد طور التنظيم تلك الرؤية بعد فترة وجيزة من استقراره فى نهاية 2014م، باعتماد تشكيل فروع لمشروع دولته من تنظيمات إرهابية محلية فى دول أخرى، ونظر لتلك الفروع كذخيرة استراتيجية وهى كذلك بالفعل، لا سيما وأن تلك الفروع سيكون لها دور فاعل فيه، على الأقل هى ستضمن للتنظيم بقاء مشروعه على قيد الحياة، فضلاً عن توفيرها لحاضنات جاهزة لاستقبال المقاتلين الخارجين من المسرح المتداعى، وهناك دول وفروع بعينها هى المرمى المقبل لقذائف هؤلاء النازحين، أشهرها أفغانستان ولبنان واليمن ومصر وليبيا وتونس، وهى دول تخوض معظمها حرباً معلوماتية وواقعية ضد تلك الروابط الممتدة من المركز إليها، وتعكف اليوم أجهزة الدول للعمل على الخطر المستقبلى، الذى بدت إشاراته تضىء لمبات الإنذار المبكر فى غرف معلومات تلك الأجهزة.

بالعودة إلى ساحة الصراع فى الموصل ومحيطها، لن يكون اليوم التالى بسهولة القدوم المتوقعة، فربما سيُبذل جهد كبير من أطراف عديدة فى اتجاه لأن يظل اليوم الحالى ممتداً لأكبر مدى زمنى ممكن، على الأقل حتى تبدأ تلك الأطراف فى حسم خياراتها المقبلة وقياس قدرات الآخرين، ولم يكن التلاسن والاحتجاج الرسمى العراقى على الوجود العسكرى التركى، إلا أحد مظاهر ما نتلمسه مما هو مقبل، فتركيا أردوغان هى الطامع الأكبر فى هذه المنطقة ضماً أو نفوذاً أيهما أقرب لما ستنتجه الأحداث على الأرض، ولم تكن مطالبة أردوغان الأخيرة بضرورة النظر فى معاهدة لوزان 1923م المتعلقة بترسيم الحدود، ببعيدة عن هذا الاتجاه الذى حاولت فيه عقد صفقة مع الجانب الأمريكى، لتضغط الولايات المتحدة على الحكومة العراقية الحالية لغض الطرف عن الوجود العسكرى التركى المكثف، وهو الذى سينتج فى المستقبل غنائم متوقعة بصورة أو بأخرى، وتركيا فى المقابل أبدت لأمريكا استعدادها لدفع ثمن هذا التحرك على الأرض السورية، من أجهض هذا الضغط الأمريكى الذى حمله وزير الدفاع الأمريكى مبدئياً فى أول الأسبوع، هو من يقف على الجانب الآخر ممثلاً فى الحكومة العراقية ومن خلفها إيران، فهم أعلم بما تمثله تلك المنطقة وتوابعها من ثروة مادية هائلة واستراتيجية لا تقل أهمية بالنسبة لخططهما المستقبلية، وهما جاهزان لليوم التالى بما يستلزمه من أدوات لقطع الطريق التركى الطامح لهذا الاستحواذ، ولم تكن التصريحات والمواقف التى خرجت من قيادات ميليشيا «الحشد الشعبى» رداً على الوجود التركى، إلا إفصاحاً عن الطرف الجاهز لخوض الصراع على الأرض العراقية، فالميليشيا التى ارتكبت قبلاً مذابح وانتهاكات وتهجيراً وتطهيراً للمكون السنى فى المدن التى حررت من قبضة داعش، وتم السكوت وتجاوز هذه الخروقات الفاضحة بحق المدنيين سكان وأهالى تلك المدن العراقيين، لن تتوانى تلك الميليشيات القوية عدداً وتسليحاً عن خوض صراع مفتوح ومباشر مع القوات التركية، وستكون الذرائع حينها أكثر قبولاً، لا سيما وهى تقاتل قوات أجنبية على أرض عراقية، لكن الحقيقة أنه فى حال الوصول لهذا المشهد من اليوم التالى لتحرير الموصل، تكون المنطقة قد دخلت لليوم الأول من الحرب المذهبية المعلنة والمباشرة.