مصر أيام زمان!
أعظم إحساس فى أى مكان فى الدنيا هو الشعور بالأمان؛ أن تسكن آمناً، أن تنام قرير العين، أن تمشى فى الشارع مطمئناً، أن ترتاح لخروج صغارك وحدهم وعودتهم وحدهم دون اللجوء لتزويد كل طفل بسلاح «الموبايل» الذى قد لا يصلح فى أوقات الخطر على الإطلاق، بل يتم من خلاله صرف الكثير من المال والقلق على السؤال الأزلى المتكرر: «أين أنت الآن؟».
*
فى طفولتنا فى أوائل الستينات فى القاهرة، كنا نخاف من الظلام، فلم تكن الشوارع مضاءة مثل اليوم، والقصص اللطيفة عن العفاريت والجن -مقارنة بأفلام الرعب اليوم وقصص الذعر الحقيقية- كانت تدغدغنا نهاراً، لكن ليلاً كنا نشعر برهبة خفية، فكنت مثلاً ألجأ إلى الركض فى الظلام لقطع المسافة من النور إلى النور، أو ألجأ إلى الغناء لنفسى بصوت عال «يونسنى» إن اضطررت للخروج لشراء شىء فى وقت متأخر فى ظلام الليل.
*
صديقاتى ومعارفى من النمساويات اللاتى زرن مصر حتى أواخر التسعينات ذكرن لى أنهن كن يشعرن بالأمان فى القاهرة أكثر من فيينا، خصوصاً فى الليل. فقد كانت فيينا فى ذاك الوقت مدينة هادئة تنام من المغرب وتخلو شوارعها تقريباً من المترجلين. قلن لى إنهن رأين فى شوارع وطرقات مصر أن أى شخص يتعدى حدوده كان الجميع يهرعون لنجدتهن وعقاب المتعدى بتقريع يستحقه، بإحساس أن الشارع هو مكان الجميع، وأن من يسير عليه أيضاً مسئولية الجميع ولا يمكن للشخص أن يغض البصر عن أفعال الشر فى الطريق العام.
*
الكثير من طالباتى النمساويات اللاتى زرن مصر مؤخراً اشتكين لى من عدم قدرتهن على السير فى الطريق العام وحدهن، ولا أن يركبن المترو مثلاً، وأن التحرش قولاً وفعلاً وصل مداه، واللافت للنظر والاستغراب أن الشارع العام اختلف عما كان قديماً، لا أحد ينجد أحداً، والمرأة الوحيدة فى الطريق فريسة لألف عين ويد وفم، وإن ركبتْ تاكسياً وحدها فهى تتعرض فى كثير من الأحيان لسماجة السائق وتلميحاته السخيفة، فتضطر للنزول لتعانى من جديد أو تقبل السماجة حتى تصل لمكانها، وإن كانت تقود سيارتها بنفسها فهى تتعرض لمعاكسات صبيانية واستعراضات لرجال من كل الأعمار، حتى ضابط المرور يغض نظره أو يتهكم ضاحكاً وكأن ما يحدث ليس واقعاً وإنما فيلم يشاهده.
*
أقيم هنا فى فيينا منذ ثلاثة عقود ولم أرَ مرة شخصاً يصفع آخر أو أشخاصاً يتعاركون. أؤكد مرات أن فيينا ليست الجنة التى حدثتنا عنها أسمهان، وأن هنا أيضاً عنصرية مستترة وهنا أيضاً عنف أسرى وكل انحرافات البشر لكنى أظن أنها فى حد أدنى مقارنة بأمكنة أخرى. الشارع هنا له احترامه وقدسيته، إن رمى شخص مهملاته على الأرض يتلقى نظرات استياء، أما إن بصق على الأرض فسيلقى ازدراء بلا حدود. فى الترام أو الأتوبيس من يكاد يلمسك عن غير قصد يعتذر لك فوراً.
*
كنا قديماً كذلك وأكثر، ورقى السلوك لا علاقة له بالتدين من عدمه، فمظاهر التدين أصبحت بارزة فى الشارع شكلاً وكلاماً، لكن السلوك امتلأ بالفظاظة والغلظة. التعامل الراقى مخزون مكتسب من المجتمع.
المجتمع الذى يقول فيه الأب لابنه: «خذ حقك بنفسك واضرب ولا تأت إلىّ مضروباً!» والمجتمع الذى يسمح فيه للتلاميذ بضرب وصفع بعضهم بعضاً دون تدخل المدير والمدرس والإخصائى الاجتماعى، والمجتمع الذى يرى أن ما خارج البيت غابة للقوى، يتجه إلى الانحطاط ثم الاندثار ويصبح تاريخاً نتحدث عنه بكل أسى، ونتذكر معه المجتمع الجميل المندثر أيضاً بكل حنين!
(جراتس 21-3-2013)