الدولة المارقة وأزمة القانون الدولى

فى سنة 1999م، صدرت الطبعة الأولى من مؤلَّف الكاتب الأمريكى «نعوم تشومسكى» عن «الدول المارقة» (Rogue States)، قاصداً به الدول التى تلجأ إلى استخدام القوة فى الشئون الدولية. وفى هذا الكتاب، يؤكد المؤلف أن هناك استخدامين لمصطلح «الدولة المارقة»؛ أحدهما دعائى يطبق على أعداء مصنفين، والآخر موضوعى ينطبق على الدول التى لا تعد نفسها مقيدة بالأعراف الدولية.

ويبدو أن «تشومسكى» قد استقى عنوان كتابه من الإعلان الأمريكى البريطانى الصادر فى أبريل 1998م بأن «العراق دولة مارقة» تشكل -حسب زعمهم- تهديداً لجيرانها وللعالم بأسره، وأنها دولة خارجة عن القانون. وبناءً على هذا التصنيف، سعت الدولتان إلى إسقاط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، بحجة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، حيث شنت الدولتان حرباً ضد العراق الشقيق فى 17 مارس 2003م، دون أى تفويض من مجلس الأمن، وبدون أى غطاء من الشرعية الدولية.

وقد أثبتت الأحداث زيف الزعم الأمريكى البريطانى بامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، حيث كشفت مذكرات الرئيس الأمريكى الأسبق «جورج دبليو بوش» الأهداف الحقيقية لغزو العراق، مؤكداً كذب التقارير الاستخباراتية حول امتلاك نظام «صدام حسين» أسلحة دمار شامل. ولم تكن اعترافات بوش الابن هى الوحيدة فى هذا الشأن، إنما تبعها إعلان رئيس الوزراء البريطانى الأسبق «تونى بلير» تحمله المسئولية كاملة عن غزو العراق، وذلك عقب إعلان نتائج تحقيق «جون تشيلكوت» الذى أكد مبالغة رئيس الوزراء البريطانى التى ساقها لتبرير الغزو العسكرى.

وإذا كانت الوقائع قد أثبتت زيف التصنيف الأمريكى البريطانى للعراق إبان حكم الرئيس الأسبق صدام حسين «دولة مارقة»، فإن الحوادث المتعددة تثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن الولايات المتحدة الأمريكية «دولة مارقة» تتحلل من كل المواثيق والأعراف الدولية. فعلى سبيل المثال، ورغبة فى الإفلات من تطبيق النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، سعت الولايات المتحدة الأمريكية لمنح حصانة لجنودها المشاركين فى قوات حفظ السلام الدولية المنتشرة فى البوسنة والهرسك. وفى سبيل ذلك، لم تتورع الدولة العظمى عن استخدام حق النقض ضد مشروع قرار مجلس الأمن بتمديد مهمة بعثة الأمم المتحدة فى البوسنة والهرسك، دون أن يتضمن تقرير حصانة للجنود الأمريكان المشاركين فيها. فعند إجراء التصويت على مشروع القرار، حاز على ثلاثة عشر صوتاً، بينما عارضته الولايات المتحدة الأمريكية، وامتنعت بلغاريا عن التصويت. وللبحث عن حل لهذه المشكلة، اضطر مجلس الأمن إلى اعتماد القرار رقم (1422) لسنة 2002م بتقرير حصانة للجنود الأمريكان من الملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إنما قامت الحكومة الأمريكية بإصدار قانون فى الثانى من أغسطس سنة 2002 بشأن حماية الجنود والمسئولين الأمريكان، المعروف إعلامياً باسم «قانون غزو لاهاى»، والذى يهدف إلى حماية الجنود والمسئولين الأمريكان ضد الملاحقة الجنائية أمام المحكمة الجنائية الدولية. وقد وصل هذا القانون إلى مستوى غير مسبوق فى إهدار قواعد القانون الدولى، وذلك من خلال النص على تخويل الرئيس الأمريكى الحق فى اتخاذ كل الإجراءات الضرورية والمناسبة لتحرير أى مسئول أو جندى أمريكى يتم القبض عليه أو سجنه بواسطة أو باسم أو بناءً على طلب من المحكمة الجنائية الدولية، ولو وصل الأمر إلى حد غزو دولة أخرى، الأمر الذى دعا الوسائل الإعلامية إلى أن تطلق على هذا القانون مسمى «قانون غزو لاهاى». ومؤخراً، وفى 28 أغسطس 2016م، أسقط الكونجرس الأمريكى الفيتو الرئاسى على قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، المعروف اختصاراً باسم «قانون جاستا» (JASTA)، والذى يخول للمتضررين من أحداث 11 سبتمبر مقاضاة الدول الأجنبية حيثما تمت تصرفاتها وأينما كانت والتى قامت بتقديم دعم جوهرى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى منظمات أجنبية أو أشخاص ضالعين فى أنشطة إرهابية ضد الولايات المتحدة. ويعد هذا القانون سابقة خطيرة وانتهاكاً سافراً لكل الأعراف والمواثيق الدولية، وتحديداً الإعلان الصادر عن الأمم المتحدة فى 21 ديسمبر 1965، القاضى بضرورة احترام سيادة الدول وعدم جواز التدخل فى شئونها الداخلية، ثمَّ الإعلان الصادر فى 24 أكتوبر 1970م حول مبادئ القانون الدولى الخاصة بالعلاقات الدولية والتعاون بين الدول وفق ميثاق الأمم المتحدة.