«إقبال».. قيثارة الإسلام عند الكعبة

كان قيثارة الإسلام «محمد إقبال» يقول: اللهم أعطنى القوة لأقول لا، وأعطنى العقل لأعرف كيف أقولها، وأعطنى الكفاية لأعرف متى أقولها.

هذا هو شاعر باكستان العظيم، والقارة الهندية كلها، وشاعر الإسلام والإنسانية، الذى ملأ الدنيا كلها شعراً وحلماً وحكمة.

وصدق الأديب الكبير أحمد حسن الزيات بقوله عنه: «لقد نبت جسمه فى رياض كشمير، وانبثقت روحه من ضياء مكة، وتألف غناؤه من ألحان شيراز، داعية لدين الله فى العجم، يفسر القرآن بالحكمة، ويصور الإيمان بالشعر، ويدعو إلى حضارة شرقية قوامها الله والروح وينفر من حضارة غربية تقدس الإنسان والمادة». وقارن بينه وبين حسان بن ثابت شاعر الرسول قائلاً: «إذا كان حسان شاعر الرسول فإن إقبال شاعر الرسالة، وإذا كان هناك من نافس حسان فى شرف الدفاع عن الرسول فإن إقبال لم ينازعه أحد فى شرف الدفاع عن الرسالة فى عصره».

يا لروعة هذا التشبيه من الزيات العبقرى، والذى قارن بين الصوفية وإقبال فقال: «إذا كان من الصوفية من عطّر مجالس الذكر بفضائل الإسلام وشمائل النبوة فليس فيهم من بلغ مبلغ إقبال فى فقه الشريعة وعلم الحقيقة والجمع بين قديم الشرق وجديد الغرب فى قوة تمييز وسلامة فهم وصحة حكم».

هذا هو إقبال ابن البنجاب الغربية، ابن الشيخ نور محمد الذى ولد سنة 1294 هـ الموافق 1877 م، والذى اعتنق أحد أجداده الإسلام فى عهد السلطان زين العابدين بادشاه، والذى أتقن الفارسية والعربية إلى جوار الأوردية، والذى حصل على الماجستير فى العربية، وقد عمل عميداً للعربية فى الكلية الشرقية بجامعة البنجاب ولم يصرف التدريس إقبال عن الشعر، وظل يشارك فى محافل الشعر.

ورحل إلى أوروبا ليجمع بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وذهب إلى بريطانيا أولاً، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة ميونيخ ثم عاد إلى وطنه، وكان يرى انفصال مسلمى الهند عن الهندوس وتأسيس دولة مستقلة اسمها باكستان.

لقد كان إقبال مرهف المشاعر، تلمس ذلك فى قوله يوم موت والدته: «عندما آتى إلى قبرك سوف أصيح: من ذا الذى سيذكرنى فى الدعاء فى منتصف الليل بعدك يا أمى؟».

لقد عاش إقبال مع القرآن وتضلّع من معينه، وكان دوماً يذكر نصيحة أبيه «إذا أردت أن تفقه القرآن فاقرأه وكأنه أُنزل عليك»، فإذا به من يومها يغوص فى فيوضات القرآن حتى انطبع نوره على قلبه وفاض به أدبه وشعره وكلماته.

لقد حكى إقبال عن والده قصة مؤثرة جداً: «جاء سائل فطرق بابنا بعنف فزجرته بعصاً كانت بيدى، فتناثر ما جمعه، فتألم والدى وسال الدمع من عينيه وقال: يا بنى غداً تجتمع أمة خير البشر أمام مولاها ويحشر أهل الله الحكماء والشهداء والعلماء والعصاة، ويأتى هذا السائل المسكين صائحاً وشاكياً، فماذا أقول إذا قال النبى الكريم: لقد أودعك الله فتى مسلماً فلماذا لم تؤدبه بأدبى؟ أتفضح أباك أمام مولاه؟ يا ولدى كن برعماً فى غصن المصطفى، ووردة من نسيم ربيعه، وخذ من خُلقه الطيب بنصيب وافر»، هكذا نشأ إقبال الذى هزّ الأمة كلها بشعره وأيقظها من سُباتها وغفلتها.

عندما وصل إقبال إلى بلاد الحرمين هتف بأبيات رائعة متشوقاً لأولئك الركب الطاهر الذى بدأ صناعة حضارة الإسلام العظيمة فهتف قلبه:

والمجد مشتاق وأمة أحمد

يتهيأ التاريخ لاستقبالها

وعندما توجه إلى المدينة المنورة كتب قصيدته الرائعة «إلى مدينتك يا رسول الله»، التى ترجمها العلامة الهندى أبوالحسن الندوى.

وعندما طاف بالبيت الحرام تعلق بأستار الكعبة وبكى طويلاً وأنشد قصيدته «تاجك يا مكة»، وقد تعجب فيها من جيل الصحابة الذين كانوا يطوفون بالأصنام يوماً ثم أصبحوا يهدمونها ويرفعون راية التوحيد وينشرون الخير فى كل مكان.

وعندما همّ إقبال أن يودع بلاد الحرمين ومهبط الوحى سكبت عيونه الدمع غزيراً ولم يتمالك نفسه من الوجد والحزن ومغالبة الشوق فأنشد أروع قصيدة من وجهة نظرى والتى كستها الحكم الرائعة والمعانى النبيلة والسياقات الإيمانية الصادقة، والتى كان الفضل لأم كلثوم ورياض السنباطى فى وصولها إلى العرب جميعاً وهى قصيدة «الشكوى» التى عُرفت عندنا بـ«حديث الروح».

وهذه القصيدة الرائعة ترجمها للعربية محمد حسن الأعظمى وأعاد كتابتها بالطريقة التى غنتها أم كلثوم الشاعر المصرى الصاوى شعلان.

لقد هتف قلب الشاعر وهو يودع بلاد الحرمين بنفس باكية حزينة متذكراً أمجاد جيل الصحابة الكرام راجياً وحدة العرب والمسلمين

آه يا إقبال، لو رأيت أمة العرب أو المسلمين اليوم وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل منهم يُقصى أو يقتل أو يسجن الآخر، أو لو رأيت اليمنى والعراقى والمصرى والليبى والسورى والتركى يقتل أخاه، آه يا إقبال، لقد ذهبت دعوتك أدراج الرياح بين أقوام لا يتقون ولا يفقهون.

رحم الله «قيثارة الإسلام» التى أسعدت القلوب وأيقظت النفوس.

لقد كان إقبال أنبغ عقل أنتجته الثقافة الجديدة التى ظلت تشتعل فى العالم الإسلامى طوال قرن كامل وأعمق مفكر أنتجه الشرق فى عصرنا الحاضر كما قال عنه العلامة «أبوالحسن الندوى».