«ساقية أبوشعرة».. قرية السجاد اليدوى تحارب السنوات العجاف

كتب: دارين فرغلى

«ساقية أبوشعرة».. قرية السجاد اليدوى تحارب السنوات العجاف

«ساقية أبوشعرة».. قرية السجاد اليدوى تحارب السنوات العجاف

بيوت طينية لا تخلو من عامل أو اثنين بمهنة صناعة السجاد، فى قرية تنافس بإنتاجها فى معارض تقام بالدول الأوروبية، وأطفال يتعلمون مع الكلام كيف ينسجون السجاد ويتقنون حرفته.. قرية تحارب الآن من أجل بقاء حرفة اشتهرت بها حتى لا يأتى يوم ويصبح سجادها مجرد ذكرى يتحاكى بها الأحفاد.. هنا قرية «ساقية أبوشعرة» مركز أشمون، المنوفية. يجلس الأطفال على قطعة خشبية رفيعة، مثبت أمامهم نول خشبى مربوط فيه خيوط من حرير، يصطفون فى طابور بالعرض، يمسك كل منهم قطعة خشبية يكاد يكون حجمها ضِعف كَفِّهم الصغير، يطلقون عليها «المبرد»، فهى تنتهى بـ«موس» صغير يستخدمونه فى تقطيع زوائد الخيوط بعد ربط العقد على «السدأ»، وأمامهم توضع لوحة صغيرة مرسوم عليها صورة تفصيلية لسجادة ينظر الأطفال إليها ويدققون فى تفاصيلها حتى يقلدوها دون أية أخطاء. 6 جنيهات تتقاضاها «مروة» وأقرانها الصغار مقابل عملهم يومياً منذ الساعة 7 صباحاً وحتى 5 عصراً، يصيبهم كثير من الملل، وآخرون يصابون بآلام فى الظهر، إلا أن تلك الصغيرة التى كبرت قبل أوانها، تقول: «ما باليد حيلة، فأنا أشترى لنفسى ملابس المدرسة وأدفع ثمن الكتب أيضاً»، وتنطق الطفلة بداخلها: «وباحب أشترى شبيسى بالطماطم كمان». رضوى محمد أشارت إلى قَطع صغير بإصبعها، وقالت عنه فى حسرة بدت على وجهها الصغير: «أنا اتعورت من الموس مش عارفة إزاى، مع إنى كنت واخدة بالى كويس»، لا تعرف «رضوى» شيئاً عن المعارض التى يعرض فيها السجاد الذى تجلس أمامه، تحيكه وتعمل عليه نحو العام فى بعض الأحيان، ولا تعلم أيضاً شيئاً عن أن سعر السجادة «المتر فى متر» لا يقل عن 3 آلاف جنيه، ولكنها تحرص على أن تضع يوميتها فى حصالة صغيرة تفتحها بين الحين والآخر، لتشترى بها ملابس أو أحذية لها ولإخوتها الصغار. أما «آية» تلك الطفلة التى لم تتعدَّ 10 سنوات، فهى تحفظ تلك المهنة عن ظهر قلب، واعتادت عليها منذ سن السادسة، وتصف نفسها بـ«الحريفة»، وتتحدث بسعادة شديدة عن الدور الذى تلعبه فى المنزل حين تعود لأمها بيوميتها فتشترى بها ما ينقص منزلهم. يشرف على خلية النحل تلك شاب لا يتجاوز عمره 27 سنة، ينظر إلى النول الذى يحاك عليه السجاد، ويقول: «أنا اشتغلت الشغلانة دى وأنا أصغر منهم بكتير، كانت اليومية ما تتعداش 40 قرشاً، أما الآن فالخط الذى نحيكه، والذى يتكون من 800 عقدة، يصل إلى 5 جنيهات»، لا يتعدى عدد الخطوط التى يصنعها أحمد صلاح حجاج، 10 خطوط يومياً، ويتحدث عن توقف كثير من البيوت فى «ساقية أبوشعرة» عن العمل فى صناعة السجاد اليدوى: «كنا بنشتغل على 4 سجاجيد مرة واحدة، دلوقتى ما بنزيدش على سجادة، وده بعدما تراجعت السياحة فى الفترة الأخيرة»، ويبرر هذا الانخفاض: «زاد سعر خيوط الحرير بصورة جنونية، وحتى بعد أن أدخلنا فى السجادة الألياف الصناعية المستوردة من الصين، ظلت تكلفة الصناعة، ككل، مرتفعة للغاية». فى منزل مجاور، وضع أشرف صبحى «الخولى» نولاً كبيراً وجلس أمامه بعض الأطفال يعملون على سجادة لم يكتمل ربعها بعد، ويتوقف العمل فيها بين الحين والآخر، بسبب نقص فى خيوط الحرير، ويضطر «أشرف»، الذى يعمل مدرس زراعة، إلى أن يطلب منهم الذهاب إلى منازلهم والعودة بعد استكمال الخيوط. يساعد «أشرف» فى صناعة السجاد أبناؤه الصغار وزوجتاه، وبعض الطلبة الذين يدرسون فى المدرسة التى يعمل بها، ويصر على تعليم ابنه الذى لم يتعدَّ الـ5 سنوات صناعة السجاد، ويقول: «أنا بعلمه عشان يعرف يصرف على نفسه، لأنى مش هقدر أوفر له مصاريفه ومصاريف إخواته وكمان مصاريف البيت»، وينهى حديثه: «الخام سعره ارتفع جداً، والتسويق قلّ، خصوصاً بعد ما انخفض عدد السياح اللى بييجوا مصر، وبقى فى النازل، وبالتالى قل الطلب من المحلات اللى كانت بتاخد شغلنا فى المناطق السياحية سواء فى القاهرة أو الغردقة وشرم الشيخ». نول يغطيه التراب عن آخره، وسجادة توقف العمل بها منذ ما يزيد على سنة، وعمال فى انتظار العجلة أن تدور من جديد، هذا هو حال المصنع الصغير داخل منزل محمد أحمد ناجى، الذى يقول: «كنا بننتج السجاد فى المصنع ولا نكتفى بهذا، بل نرسل الأنوال إلى بعض المنازل، ويعمل أهلها على السجادة ويعيدونها إلينا مكتملة، وكنا نبيع منتجاتنا فى سقارة ومحلات بشرم الشيخ، ولكن أسعار الخامات تضاعفت، ووصل سعر كيلو الحرير إلى 500 جنيه، وزاد من الكارثة ركود السياحة، فتوقف العمل فى كثير من مصانع القرية، وذهب كثير من ممتهنى صناعة السجاد المهرة فى القرية للعمل فى مصانع مستحضرات التجميل وشركات النظافة فى 6 أكتوبر والعاشر». لا يزال سجاد «ساقية أبوشعرة» ينتظر على النول حتى يعود العمل عليه من جديد، وبيوت هجر سكانها العمل بتلك الحرفة لأجل غير مسمى، وشباب ظنوا أنهم لن يلاقوا مصير أقرانهم ولن يطاردهم شبح البطالة، طالما خيوط الحرير معلقة فى الأنوال تنتظر أيديهم الماهرة، وأطفال فى الخامسة من العمر، يعملون داخل ما تبقى من مصانع للسجاد فى قريتهم، كل هؤلاء ينتظرون عودة قريتهم، أحد أهم موردى السجاد اليدوى داخل مصر وخارجها، إلى مكانتها، ويدعون الله أن تستقر الأمور فى مصر ويعود السياح إليها لتعود إليهم صنعتهم من جديد.