أحمد زويل والشيخ في الاستوديو.. لماذا المعرفة صعبة؟

أحمد صلاح

أحمد صلاح

كاتب صحفي

اعتدل الشيخ في قناته الخاصة، على كرسيِّه الوثير، وأمامه مذيع يقرأ من ورقة بالية، ذكر المذيع في عبارة موجزة مختصرة خبر (نفوق أحمد زويل المنافق الخائن لدينه ولأمته)، لاحظ أن (النفوق) يكون للحيوان، ويقابله الموت للإنسان.

ابتسم الشيخ الشهير بخفة الظل، وبدأ في كيل الإهانات للمتوفَّى، وذكر ما سماها خيانَتَه، وأنه والى الكفار، وبالتالي فلا يستحق اسم (مسلم)، وهو (كافر)، أطلقها رنانة في الاستوديو الذي أظنُّهُ صالةَ منزلِهِ في دولة أوروبية!!

ما أيسر الكلام عندنا..! وما أسهله..! شيخ فقير (بدءًا من علم الشريعة التي يدعي الصلة بها، وصولًا إلى علم الذرة) لم يقدم لأمته سوى رصيد من الخواء اللفظي، وبعض النكات، قرر أنه اليوم سيُخْرِج من الدين عالمًا عربيًّا مسلمًا أرسى مفهوم الفيمتو ثانية (عبارة عـن مليون مليار كوادرليون جزء من الثانية. النسبة بين الثانية والفيمتو ثانية كالنسبة بين الثانية و32 مليون سنة)، اليوم سيبعد عن حوزة الدين أستاذًا جامعيًّا، وأبًا فاضلًا، وصاحب مشروع طموح لإقامة صرح علميٍّ يضاهي الأهرام وأبا الهول.. هكذا أفقده آخرته، في الاستوديو..!

إذا أخذنا بمقولة كتاب تاريخ العلم (أُوصِي بقراءته بشدّة) فإن الحقيقة أن العلم لم يتطور نتيجة تراكم الخبرات، قدر وجود البشر العباقرة الذين صنعوا طفرات أسهمت في اختصار البشرية عشرات السنين من الكلام المكرر..!

كان أحمد زويل أحد صانعي هذه الطفرات.. لكن الشيخ رأى أنه كافر بعد موته، فليكن إذًا!!

سأحكي لكم قصة، وأعدكم أن تكون ممتعة..

مفهوم المعرفة

جلس أفلاطون في محاورته الشهيرة (التيئتتيس)، وسُئِل عن المعرفة، ما هي، فقال: (اعتقاد صحيح مبرر)، التعريف الذي استمر على مدار 2500 سنة. وعُرِف بنظرية المعرفة الثلاثية (J.T.B)، والمقصود أن أيَّ اعتقاد يكون صحيحًا وأملك عليه دليلًا يُصبِح معرفة، فإذا قلتُ: الشمس ساطعة، وكانت كذلك، وأحسستم بحرارتها، أكون قد قدمت معرفةً..!

ظهر إيدموند جتير، وكما قلنا: العلماء فقط من يهدمون المفاهيم ويعيدون بناءها (ليس الجلوس في الاستوديو بقادرٍ على ذلك حسب علمي)، في عام 1963، نشر هذا العالِم ورقة بحثية بعنوان (هل الاعتقاد الصحيح المبرر معرفة)؟

هذه الورقة كانت مجموعة من الأمثلة المحيِّرَة، والمتناقضات المربكة، تحوي اعتقادات صحيحة مبررة لكنها بالتأكيد لا تمثل معرفة.

مشكلة الساعة المعلقة:

ضرب جتير مثالًا بشخص أثناء خروجه من المنزل نظر للساعة الْمُعَلَّقَة على الحائط وكوَّنَ اعتقادًا بأن الساعةَ حاليًا 3 عصرًا، لكن الساعة على الحائط كانت معطلة من اليوم السابق، ولكن للصدفة كانت الساعة فعلًا 3 عصرًا أثناء خروجه، هكذا كان هذا الشخص عنده اعتقاد صحيح ومبرر، لكنه بالتأكيد ليس معرفة.

برتراند راسل والموظف

أدلى الفيلسوف الكبير برتراند راسل بدلوه فضرب مثالًا مؤيدًا لجتير، قال: شخص ما تقدم للحصول على وظيفة، وعندما ذهب لإجراء مقابلة في غرفة الانتظار قابل شخصًا آخر ينتظر الوظيفة ذاتها، قال الآخر للأول: لو لم يكن لديك عشر سنوات من الخبرة، فلن يقبلوك في العمل، مشي الأول شاعرًا بالفشل، لأنه عدّ سنوات الخبرة، وعرف أنها أقل من المطلوب، بعد قليل وجد رسالة على هاتفه تخبره بأن يتسلم العمل لأن لديه عشر سنوات خبرة، هنا قفز مسرورًا وتذكَّر أنه قام بعَدّ السنوات خطأً من ارتباكه، أي أن هذا الشخص كان عنده اعتقاد صحيح ومبرر، ولكن بنى عليه فرضية خاطئة، بأنه لن يتسلم الوظيفة.

إذًا أفلاطون صار في مأزق.. ماذا سنفعل؟!

اقترح العلماء والفلاسفة أن يكون هناك شرط رابع للاعتقاد الصحيح المبرر، لكي نسمي هذا الشيء (معرفة)..! وهو (أن يكون التبرير مبنيًّا على فرضية صحيحة).. ففي هذه الحالة يكون الشخص الذي ذهب إلى منزله ظانًّا أنه لن يحصل على الوظيفة مخطئ، لأن فرضيته ليست صحيحة.

المشكلة أن معظم أنواع المعرفة في حياتنا لا تعتمد أساسًا على الفرضية، وإنما على الحواس، مثل أن ننظر إلى الساعة على الحائط، أو  نسمع الأخبار من التلفزيون.

لذلك جاء الفيلسوف ألفين جولدمان (1967)، بمفهوم نظرية الشرط السببي، ما لبث أن غَيَّرَها بنظرية (الموثوقية)، تنصّ على زيادة شرط أن يكون السبب مناسبًا في البيئة، مثلا لا يمكن في حالة الساعة الاعتماد على الحواس، لأنها غير مناسبة..!!

‏إشكالية اليانصيب

شخص ما اشترى تذكرة يانصيب من مليون تذكرة، وقبل إعلان النتيجة بيوم كون اعتقادًا أنه أكيد سيخسر اليانصيب لأنه إنسان غير محظوظ.

موثوقية اعتقاد هذا الشخص أكبر من 99.999999 في المائة، ولكن هل يُعتَبَر اعتقاده معرفة قبل إعلان النتيجة؟!

نظرية الملاحقة

نظريات الملاحقة التي بدأ تطويرُها من سنة 1971 على يد الفيلسوف فريد دريتسكي ثم روبرت نوزياك تعتمد على فكرة الشكّ في الاعتقاد أو طرح التساؤل: ماذا لو لم يكن الاعتقاد صحيحًا!

لكي تكون على معرفة حقيقية بالشيء ليس كافيًا أن يكون اعتقادك صحيحًا، ولكن يجب أن يكون صحيحًا أيضًا لو كانت الأمور أو الظروف قد تغيرت.

ماذا نريد أن نقول؟!

نريد أن نقول إننا في محاولة تعريف (المعرفة)، التي هي الانطلاقة الأولى تجاه أي علم، تعددت الآراء وجاءت الاعتراضات واختلفت التسميات، وسخر قوم من قوم..!

وهذا الشيخ في الاستوديو قال على زويل إنه كافر.. هكذا دفعة واحدة.. ولم يرف له جفن.

لا تتسرعوا في الحكم عليَّ!

أنا لا ألوم الشيخ. إنني فقط أندم على السنوات التي ضاعت من تاريخ العلم قبل ذلك الشيخ.. ألم يكن من الرائع أن يوجد أيام أفلاطون لكي يبذر لنا نبتة العلم الحقيقي، الذي لا يحتاج لاختلاف ولا يؤمن بالتعددية، ولا يعرف هذه الخلافات التافهة، ولا يعبأ بأي شيء سوى (عندي) و(أرى)!!

هل سمعتم عن (القاعدة الذهبية)؟!

إنها نموذجان بسيطان أحدهما سلبي والآخر إيجابي، يعبران عن المبدأ الذي به تتخلص الإنسانية من شرورها وانتهازيتها وأنانيتها.. يمكن تلخيصهما في الآتي:

- النموذج الإيجابي: عامِلْ الآخرين بما تحب أن يعاملوك به.

- النموذج السلبي: لا تعامل الآخرين بما تكره أن يعاملوك به.

بدأ استخدام هذان النموذجان في القرن السابع عشر..

يبدو أن شيخنا لم يمر بهذه المعرفة!

(تم الاستفادة من صفحة «كشك الفلسفة» في كامل الحديث الفلسفي بالمقال مع تصرفات كبيرة).