أحمد زويل.. الوداع الأخير

عندما دخل د. أحمد زويل جامعة «كالتك»، كأستاذ مساعد لأول مرة، وجد فى فناء الجامعة خمسة علماء أمريكيين من نفس الجامعة حصلوا على جائزة «نوبل» فى العلوم وهى أرفع جائزة علمية عالمية.

فقال لنفسه: أين أنا من هؤلاء؟ وكيف سأكون رقماً مهماً بينهم؟ فكر فى العودة إلى مصر خوفاً من أن يفتضح بين هؤلاء القمم العظماء.

طرد هواجس الضعف سريعاً، تذكّر أنه ابن حضارات عظيمة، المصرية القديمة والإسلامية والعربية، وأنه حصل على الماجستير فى ثمانية أشهر، وهو زمن قياسى، وحصل على الدكتوراه الأمريكية فى عام ونصف فقط، وأن كل الجامعات التى راسلها قبلته ولكنه اختار هذه الجامعة العريقة.

تذكر «زويل» ذلك كله وهو يحضر احتفالاً ضخماً أقامته جامعة «كالتك» احتفاء به واحتفالاً بعيد ميلاده السبعين ومرور أربعين عاماً على انضمامه لهذه الجامعة العريقة.

كان الاحتفال مهيباً تحدّث فيه علماء عباقرة حصلوا على «نوبل» ينتمون للجامعة، مدحوا «زويل» كثيراً، قالوا إنه أجرى بعد حصوله على «نوبل» أكثر من 16 بحثاً عالمياً تؤهله للحصول على نوبل الثانية فى العلوم، وقال بعضهم: لقد منح زويل جائزة نوبل قيمة ومعنى.

لم يركن «زويل» لحصوله على «نوبل» أو «فرانكلين» أو عشرات الجوائز العلمية، همته أعلى من الركون إلى هذه الجوائز، لم يغتر بها، لم تغيره كل هذه الإنجازات بل زادته همة وتواضعاً وانكساراً للخالق سبحانه وتواضعاً مع خلقه.

تعجب فى مصر حينما تقابل معيداً يملأه الكبر، أو ضابطاً برتبة الملازم كله شموخ وغطرسة، أو وكيل نيابة شاباً يتيه فخراً وإعجاباً بنفسه أو تسلطاً على الضعفاء، حينها ستعرف قيمة زويل وأنه «نسيج وحده» فى الأدب والتواضع والعلم والفضل.

لم يحضر الحفل من مصر سوى علامة الطب النفسى ورائده فى الشرق الأوسط د. أحمد عكاشة. بين الأيام الأولى لزويل فى جامعة كالتك وبين حصوله على معظم جوائز العلم الكبرى فى العالم أربعون عاماً كاملة قضاها الرجل فى كفاح مستمر، وصل ليله بنهاره سعياً وراء الجديد والأفضل فى العالم حتى توج مسيرته العلمية بأعظم اختراع فى العالم وهو تصوير الجزىء وانقسامه فى وقت لم يسبقه إليه أحد وهو الفمتوثانية عن طريق ميكروسكوب رباعى الأبعاد.

مكتب د. زويل صغير جداً فى الجامعة، أما المعامل التى يمارس فيها تجاربه وأبحاثه فكبيرة جداً، أما عندنا فكل مدير لديه مكتب كبير وفخم يتكلف ملايين، أما معاملنا فميزانيتها لا تصلح لشراء فوط أو أدوات تجارب.

ميزانية الأستاذ فى الكليات العملية عندنا فى العام كله لا تجاوز سبعمائة جنيه لا تسمن ولا تغنى من جوع.

ليس هناك بحث علمى حقيقى فى مصر، ولا أبحاث عالمية، والدليل على ذلك أن «نوبل» لم يحصل عليها أى أستاذ فى أفرع العلوم.

إن لدينا عقولاً عظيمة، ولكن لدينا فساداً إدارياً غير محدود مع بيروقراطية ضاربة بجذورها فى أعماق المؤسسات العلمية مع «شوية كوسة + توريث + تدخل جهات غير علمية فى عمل المؤسسات العلمية + عدم ترقى الكفاءات».

لقد سئل «زويل» يوماً عن سر نجاح المصرى فى الغرب وفشله فى وطنه فقال أجمل حكمة: «الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء، ولكنهم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح ونحن نحارب الناجح حتى يفشل»، فكم وقفنا ضد الناجحين حتى فشلوا، وكم وقف الغرب خلف المتعثرين من أبنائهم حتى نجحوا.

لو أكمل «زويل» مسيرته العلمية فى مصر لكان مجرد أستاذ مغمور فى كلية العلوم تتحكم فيه البيروقراطية، أو يُقصيه الفساد، أو يقع تحت طائلة التصنيف، أو تُدفن كفاءاته، أو ما هو أشنع من ذلك وأكثر.

«زويل» قدّم علمه للعالم كله، وأقل دول العالم استفادة من علمه هى دول الوطن العربى الذى اهتم بالاحتفالات والتكريمات، أما الدول الأخرى، ومنها إسرائيل، فأخذت علمه كله وصنعت أكبر مركز لليزر فى منطقة الشرق الأوسط.

لا ينبغى لأحد أن يلوم د. زويل لذهابه لإسرائيل وأنه قدّم لهم كل ما أحرزه من علم وتقنية، لأن العلم متاح للناس جميعاً دون استثناء، وهو عالم أمريكى لا يستطيع رد هذه الدعوة وإلا كانت مبرراً لأشياء كثيرة آخرها اغتياله.

وعلى الذين يلومونه أن يلوموا أنفسهم والدول العربية كلها التى لم تهتم بعلمه أو تلك الدول التى حاربته وأقصته ولم تحول علومه إلى مشروع علمى يفيد هذه الأوطان.

العرب لا يريدون العلم والعلماء ولا المشاريع العلمية، إنهم يريدون الرقص والغناء والمسلسلات الهابطة، أما ماليزيا والهند وكوريا، مع دول أوروبية كثيرة، فحولت فكر وعلم زويل إلى مؤسسات علمية بارزة وعظيمة.

أما نحن فلا نريد إلا جامعات حكومية متخلفة فى كل شىء، لا نريد مشروعاً علمياً عملاقاً مستقلاً يسير بطريقة رائدة مثل «مشروع زويل» الذى حورب قرابة عشرين عاماً، وظل زويل يلح على مبارك وأركان حكمه عشرين عاماً ليمضيه دون جدوى، وها هو مشروعه يبلغ عامه الثالث ويحصل على المركز الأول فى المراكز العلمية والبحثية فى مصر كلها، ثلاث سنوات تفوّق بها على مراكز بحثية مصرية عمرها قارب المائة عام.

«زويل» هو ابن الحضارتين العربية والإسلامية من جهة والغربية من جهة أخرى، وكل منهما له مميزاته، وإذا امتزجت الحضارتان معاً وأخذنا بالحسنات من كل منهما فسيكون لنا شأن آخر.

سلام على «زويل» الذى فاق الجميع علماً وخُلقاً وزهداً وتواضعاً وخدمة لوطنه وللإنسانية.

تذكرت ذلك كله وأنا أتابع اللحظات المهيبة لوداعه إلى مثواه الأخير، سلام عليك فى العالمين، وفى الأولين والآخرين، وإلى يوم الدين.