«الـ1.5» مليون فدان.. العمل تحت غدر الإرهاب ولدغات العقارب

كتب: محمد أبوضيف

«الـ1.5» مليون فدان.. العمل تحت غدر الإرهاب ولدغات العقارب

«الـ1.5» مليون فدان.. العمل تحت غدر الإرهاب ولدغات العقارب

دراجة بخارية ملقاة محترقة، وغرفة خشبية متفحمة، لم تكن تلك إلا الآثار الباقية من معركة دارت رحاها بين مجهولين على بوابة الدخول لقرية المهندسين «النموذجية 1»، أولى قرى مشروع المليون ونصف المليون فدان، القابع بسهل بركة، الذى يبعد عن واحة الفرافرة 20 كم شرقاً، حيث استيقظ عمال المشروع على أصوات طلقات نارية وانفجار ضخم هز أركان المشروع، حينما كانت تدور المعركة، التى بدأت بعد منتصف الليل ثانى أيام عيد الفطر.

{long_qoute_1}

ظن الجميع فى البداية أنها محاولة لسرقة بعض من خامات البناء ومعدات العمل، التى تكررت كثيراً خلال العمل داخل المشروع الممتد منذ عام، ولكن بمجرد أن انتهت المعركة خرج ياسين الشيخ، الخفير على بعض بنايات القرية الثالثة بالمشروع، مع 16 من رجاله ليستطلع الأمر ليخبره عساكر قوات الجيش بأن هجوماً إرهابياً ضرب بوابة المشروع بعربات دفع رباعى، حيث ألقوا دراجة بخارية وفجروها، وأتبعوها بإطلاق وابل من الرصاص على الجنود.

حضر «الشيخ» للعمل كخفير فى المشروع الذى أطلقه الرئيس عبدالفتاح السيسى لزراعة مليون ونصف المليون فدان، والذى يبدأ من واحة الفرافرة، باستصلاح عشرة آلاف فدان من القمح والشعير، داخل ثلاث مدن جديدة، فى سهل بركة، كانت مهمة الرجل داخل المشروع التصدى لأى محاولة للاعتداء عليه، ولكن فى نفس الوقت يقول: «أنا هنا للحماية من السرقة لكن لو دخل علينا ناس بسلاح ماقدرش ولا رجالتى أواجههم ودى الأزمة الحقيقية إحنا لا معانا سلاح ولا حاجة نحمى بيها نفسنا غير دراعنا، فلا يكون فى يد الشيخ فى مثل هذه المواقف سوى إبلاغ الجيش وأن يلوذ بالهرب. {left_qoute_1}

منذ الهجوم الأخير على بوابة المشروع، وتسلل الخوف للرجل ومساعديه، من تلك العمليات الإرهابية التى بدت أقرب لهم من أى وقت مضى، خاصة أن القرية الثالثة التى يقطنونها لا تتمتع بأى حماية كمثيلاتها التى تعرضت بوابتها لهجوم إرهابى قبل أيام.

الشيخ ببشرته السمراء، وجلبابه الصعيدى، وبنيانه الضخم، انتقل من قريته الفقيرة بمحافظة قنا لواحة الفرافرة منذ 25 عاماً للبحث عن مصدر رزق يكفل له حياة كريمة، وعمل فى بداية المشروع كمزارع، وبعد الحصاد وجد فى عمله كخفير ليلاً وملاحظ للعمال نهاراً ملاذاً يضمن له عملاً جديداً ومسكناً، بات اليوم غير آمن بعدما أصبحت تهدده الهجمات الإرهابية، ولكن رغم ذلك يقول: «ده أكل عيشنا ومش هنسيبه، ومفيش أى قلق».

يتحرك «الشيخ» وهو يصيح فى العمال بصوته الجهورى يطالبهم بالعودة لاستكمال عملهم دون تكاسل بعدما التفوا حوله أثناء حديثه لـ«الوطن»، يقبل أحدهم نحوه بجسده النحيل، وشعره الأشيب وملابسه الرثة، «حمودة محمد»، أحد عمال البناء بالمشروع، يتحدث بصوت عال وزهو شديد عن انتهائه من بناء مئذنة المسجد وطلائها على أكمل وجه: «بُنا الجامع ده حاجة لله».

{long_qoute_2}

يحتفظ «محمد» بفيديو صوره له زملاؤه أثناء طلائه للمئذنة: «الواحد فرحان إنه بيبنى لولاده المشروعات اللى زى دى لبكرة لعيالنا وعيال عيالنا مفيش بس غير شوية القلق اللى الواحد عايش فيهم من ضرب النار والكلام ده»، ولكن يعود ليحمد ربه على إيجاد عمل يقتات منه لقمة عيشه ليعود لأولاده فى سوهاج بما يكفى تعليمهم، فلا يكتفى بعمله نهاراً فى البناء ولكن يسهر ليلاً فى غرفة على أطراف المشروع كخفير لحراسة مواد البناء والمعدات: «شغالين ليل نهار.. عشان الواحد يعرف ياخد أجرتين».

داخل كوخ خشبى متهالك معلق عليه لافتة «كافتيريا المشروع»، جلس «إبراهيم النواشى»، يعمل فى طلاء منازل المدينة، ليروى لزملائه ما حدث له ليلة أمس، أثناء عودته من قصر الفرافرة، عاصمة الواحة، بعد شرائه احتياجات زملائه من الخضراوات والفاكهة، حيث اعترضه عدد من قطاع الطرق بالدراجات البخارية فى الصحراء وجردوه من كل شىء وسرقوا منه دراجته: «يا أخى الواد الحرامى بيقولى لو مجبتش كل اللى معاك هقلعك عريان، شفت إهانة أكتر من كده؟.. اللى يتقتل هنا مالوش عوزة وبنام بعين مفتوحة وعين مقفولة».

يعانى «النواشى» المقبل من دسوق بمحافظة كفر الشيخ، وزملاؤه من العمل فى ظل ظروف قاسية، يشير بإصبعه إلى تلك الفرشة البالية الملقاة على الأرض ويقول: «دى نومتى ماليش غيرها وسط الصحرا كده من غير مأوى ولا مكان يحمينى»، وعادة ما يتعرض الرجل وزملاؤه من العمال للدغات العقارب وثعابين منتشرة فى الصحراء، ولا يجدون سوى الطرق البدائية فى العلاج، التى يساعدهم فيها زملاؤهم من البدو: «أقرب عربية إسعاف على بعد 40 كيلو».

تهرب الكثير من المقاولين من دفع أجور العمال المقبلين من الأقاليم، الذين تركوا العمل وعادوا لبلادهم «من غير ولا مليم» يقول «النواشى»، إلا بعض من لجأوا للقوات المسلحة فأعادت لهم حقوقهم، وبعضهم «كعب داير» ولكن كأن المقاول «فص ملح وداب»: «شوف بقى شقا الأيام وتعب شهور فى الصحرا دى يضيع»، خاصة وسط مخاوف العمال من التعرض للموت سواء من الإرهاب أو محاولات سرقة المعدات: «وفى الآخر ماتاخدش حقك، ويضيعوا عليك القرشين اللى كنت جاى رامى نفسك فى الصحرا عشانهم».


مواضيع متعلقة