الـ«توك توك» يحارب الصنعة.. ليه تبقى صنايعى لما ممكن تبقى «سواق»؟

كتب: عبدالله عويس

الـ«توك توك» يحارب الصنعة.. ليه تبقى صنايعى لما ممكن تبقى «سواق»؟

الـ«توك توك» يحارب الصنعة.. ليه تبقى صنايعى لما ممكن تبقى «سواق»؟

لم يكن أكثر المتشائمين بمستقبل الحرف فى مصر، يعتقد أن الأمور ستسوء إلى الحد الذى يودع فيه أصحاب الحرف مهنتهم التى امتهنوها لعقود، لتتحول الأيادى التى كانت تشكل سلعة أو تمارس صنعة، لأيادٍ تمسك «مقود» بعدما صار التوك توك أكثر جاذبية ودخلاً وراحة، فبعد أزمة الدولار دخلت العديد منها فى أزمة غلاء الخامات الأساسية لمنتجاتهم التى تشكلها أياديهم، ليقع الصنايعى بين حجرى رحى؛ زيادة أسعار السلعة التى يقدمها وبذلك يخسر زبونه الذى يعتمد عليه، أو يبيعها بالسعر القديم ليجد نفسه فى نهاية المطاف دون ربح بعد تسديد رواتب العاملين بورشته، وإذا كان صاحب الورشة هو المستفيد الأول منها ومن مهارة الأيادى العاملة عنده، فإن الصنايعى الآن صار حلمه «توك توك» يعمل عليه طيلة النهار يكسب به دخلاً «مضموناً» على عكس حرفته غير المضمونة.

{long_qoute_1}

على مقربة من محطة مترو شبرا الخيمة، تقف مجموعة «تكاتك» متراصة إلى جوار بعضها فى انتظار الزبائن الذين أرهقهم اليوم، لتحمل أجسادهم المتعبة إلى محل إقامتهم، قانون العمل بالموقف يقتضى ألا يتعدى أحد السائقين على مكان الذى جاء قبله، والنظام مطلوب منعاً للمشاكل التى ربما تقود إلى مشاجرة بالأيادى.. بداخل أحد التكاتك يجلس محمود صابر، شاب ثلاثينى لم يكن يعلم، وهو فى سن الـ14، أن تعلم تركيب الرخام والسيراميك سيقوده فى يوم من الأيام للجلوس أمام «جادون» داخل ثلاث عجلات مملوكة لشخص آخر «عندى 28 سنة، وكنت ملك زمانى لما كنت بركب رخام وسيراميك لفلل وفنادق، لكن دلوقتى الحال بقى نيلة والعمالة اللى كانت فى ليبيا رجعت والحال هنا وقف بعد ما السياحة اتضربت، وبقيت أشتغل يوم ويوم لأ، وأنا ماستحملتش كده، فسبت كل ده وبقيت أشتغل على توك توك»، مبيناً أنه ينفق على أسرة من أم وولدين، وأن جلوسه بالبيت لن يمنحه شيئاً فى المقابل «القعدة مش هتدينى فلوس فنزلت أشتغل على توك توك، بدفع لصاحبه 60 جنيه وباخد أنا الباقى لو طلع 80 أو 100 أنا ورزقى، وبصراحة أحسن من الشغل لأن مكسبه مضمون»، ثم يخرج من جيبه الخلفى كارنيه رخصة مزاولة مهنة من وزارة القوى العاملة والهجرة تفيد أن مستوى حرفته «ماهر» مضيفاً «عملتلى إيه الصنعة بقى غير الشحططة دى؟!».

تعددت الأسباب وظل التوك توك نصير الصنايعية ومهدد الصنعة، فإذا كان «محمود» ترك مهنته لقلة الأعمال التى يُطلب إليها، فإن أحمد سيد اتجه للتوك توك بعد تسريح صاحب ورشة الأحذية التى كان يعمل بها له «كنت صنايعى زى الفل والناس بتجيلى مخصوص، بس لما دخلت الجيش وخرجت لاقيت الاتنين اللى معايا مشى منهم واحد وصاحب الورشة قال لى معلش ملكش مكان»، اسودت الدنيا فى وجه «أحمد» الذى لم يتعلم سوى صناعة الأحذية منذ صغره، ومكث فى البيت لا يحرك ساكناً، لكن أهله قرروا أن يخرجوه من عزلته تلك بشراء توك توك له «الدنيا قفلت فى وشى وأهلى اللى فتحوهالى تانى بالتوك توك، وبصراحة أحسن 100 مرة من الصنعة، أنا هنا حر ومالك نفسى وماحدش بيتحكم فيا، وبعملى نحو 140 جنيه فى اليوم بعد ما كان ممكن آخد فى اليوم 50 جنيه، ومش هرجع أبداً لصنعتى مهما حصل»، مشيراً إلى أن أصدقاءه الذين كانوا يعملون بورش الأحذية يعمل بعضهم الآن كسائقين على «تكاتك» بينما امتلك الآخرون بعضها بعدما اقترضوا ثمنها من ذويهم. «العمالة قلت والصنعة مصيرها مرهون بالقضاء على التوك توك»، هكذا يعبر مجدى بولس، صاحب ورشة حدادة بروض الفرج، بعدما قام عدد من الصنايعية عنده بترك المكان «الصنايعى بقى يقول أتعب وأقرف نفسى ليه، ويروح يدور على توك توك يشتغل عليه وياخدله 80 جنيه فى اليوم من صاحب التوك توك، وعندى اتنين عملوا كده»، مشيراً إلى أن العديد من الورش التى تعتمد على الأيادى العاملة الماهرة صارت تفكر فى مشروع مربح وسهل دون تعب لتتجه أنظارهم إلى التوك توك «ليا واحد صديقى كان عنده ورشة باعها واشترى 5 تكاتك ومشغل عليها عيال صغيرة بيقبَّضهم أى كلام، وياخد هوه المكسب صافى، ورغم إن ده ممكن يكون مريح بس فيه تهديد للصنعة، ولو الدولة ماتدخلتش لحماية الصنايعية والمهن هتندثر، وبكرة تشوف».

ومن الرخام والأحذية والحدادة إلى النجارة، فبعدما ظل محمد محفوظ سنتين يتعلم النجارة على يد أحد النجارين بمنطقته، لم يعجبه المبلغ الذى يتقاضاه بشكل يومى، فقرر أن يعمل على توك توك يمتلكه ابن عمه «كنت باخد 50 جنيه فى اليوم وبقالى سنتين على كده، فزهقت وقلت الصنعة مبتأكلش عيش، وبتحتاج وقت طويل عشان تبقى صنايعى فاشتريت دماغى واشتغلت على توك توك ابن عمى وباخد 80 جنيه فى اليوم»، مبيناً أن كافة أصدقائه لم يتعلم أحد منهم حرفة أو مهنة واتجهوا للتوك توك «أغلب زمايلى ماتعلموش صنعة ولا ليهم فى حرفة معينة، وأغلبنا شغالين على تكاتك بنشترى دماغنا»، ثم يضيف ساخراً «التوك توك خلاص بقى أبونا وأمنا عشان بيأكلنا عيش، وبنلبس أحسن لبس وإحنا جواه مش معفرين بسبب الشغل».

أحد الأسباب الرئيسية فى ترك المهنيين أعمالهم تسلط رؤساء العمل، وتحكمهم فى العاملين لديهم، فأسامة محمد ترك العمل بأحد المقاهى بعد 20 عاماً من العمل بها ليشترى «توك توك» مستعملاً بـ13 ألف جنيه، ويعمل به طيلة النهار وجزء بسيط من الليل «القهوة كانت بتذل، وكان فى ضغوط علىّ وتحكمات، وفى الآخر مش عاجب صاحب القهوة، وكل ده عشان 80 جنيه فى الآخر، فقلت مابدهاش غير توك توك يريحنى»، مبيناً أنه جمع المبلغ على مراحل متفاوتة واشتراه من أحد أصدقائه دون أن يفكر فى العمل فى أى مقهى آخر «أى مكان هروحه هيبقى فى حاجة فوقى اسمها مدير أو صاحب مكان، وأنا اتخنقت، لكن كده أنا حر وصاحب مالى، واللى باجيبه بيخش جيبى وأصرف منه زى مانا عايز على نفسى وولادى التلاتة». يشاركه نفس التفكير فهمى جمال الذى كان يعمل فى «جلى» الكريستال بشركة كريستال شهيرة، تم تسريحه منها فى وقت سابق، فقرر ألا يخضع لأى شخص ولا يعمل لصالح أحد ولا لحساب شركة «لما طلعت من الشركة كان عندى 30 سنة، وصنعتى ملهاش مكان بره وأكيد مش هتعلم مهنة فى السن ده، فقلت لنفسى أنا مش هفضل تحت إيد حد يتحكم فيا واشتريت توك توك مستعمل بـ15 ألف»، الرجل الثلاثينى المسئول عن أسرة من ولدين يرى أن مصير العمالة مهدد بسبب التوك توك، لكنه فى الوقت ذاته يشير إلى أن السبب فى ذلك والكلام له «البلد حالها واقف وأى واحد لو حب يتعلم صنعة هيتمرمط وفى الآخر مش هيلاقى فلوس، لأن الناس أصلاً مش لاقية فلوس، لكن التوك توك مضمون إنه يدخَّل لك ربح يومى واسمه بتاعك انت مش بتاع حد تانى».


مواضيع متعلقة